الفرجة على الثقافة

الفرجة على الثقافة

08 يناير 2017
(مقطع من تجهيز للفنانة التونسية نادية الكعبي، 2012)
+ الخط -
ماذا يعني أن نُقدّم جردة للمشهد الثقافي العربي عام 2016؟ سؤال يُنحّى عادة لأن الإعلام الذي هيمن على الثقافة منذ تأسيس الدولة العربية وحدّد مهامها سلفاً، يريد أن يضمن بقاء دوره مهما بدا هامشياً وحشوياً وخاضعاً لحسابات تبدو المهنة في آخر أولوياتها.

تمتلئ الجردات باحتفاءات مجانية بالراحلين عن الأدب والفكر والفن، من دون إجراء مراجعات حقيقية وجذرية لتجارب هؤلاء في حياتهم وبعد رحليهم. ربما لم يلحظ أحدٌ أن عدداً من المفكّرين الذين رحلوا هذا العام لم يطرحوا جديداً في البحث والنقاش العلمي منذ سنوات وعقود؛ ألاّ تستحق المسألة قليلاً من المعاينة حول توقّف مشاريع جادّة لم يستمروا فيها لأسباب متعدّدة؟

لنقف مثلاً عند المفكّر السوري صادق جلال العظم (1934 - 2016)، الذي رحل الشهر الفائت، فقد وضع أبرز مؤلّفاته نهايات الستينيات، وظلّ حاضراً في أطروحاته لعقدين أو ثلاثة، ليدخل مثل كثير من نظرائه في "كمون" فكري.

ابتدأ مفكّرون عرب مشروعهم برفض السائد، ثم لم يجدوا مجتمعاً علمياً يقبل بهم، فقد كان معظّمهم مجرّد مدرّسين في جامعاتهم أو كتّابٍ استنزفوا في متاهة الصحافة والندوات العابرة، ولم نشهد سجالاً بين هؤلاء "الرافضين" يؤسّس تفاعلاً بين أفكارهم، ويحضر هنا العظم تحديداً الذي أخفق مع إدوارد سعيد (1935 - 2003) في تأسيس حوار حول رؤيتهما للاستشراق، بدليل مراسلاتهما التي تضجّ حدّة ونظرة ريبة لموقف كل منهما تجاه الآخر، وصولاً إلى قطيعة تامّة بينهما حتى النهاية.

جدال لم يُنتج إضافة على "الاستشراق" لـ سعيد أو على "الاستشراق والاستشراق معكوساً" لـ العظم، ولم يعن أحداً من الدارسين، وكأن النقاش بين مثقفين يُفترض أن ينشأ على خصومة سياسية أو شخصية، ولا بأس أن نتذكّر هنا "خصومات" العظم وأدونيس أيضاً، فهي بغضّ النظر عن آراء أنصارهما لم تضف أكثر مما يقوله الإعلام عنهما أو يتهمهما به.

في السؤال حول مأزق المفكّر العربي، ظهر المفكّر السوري الطيب تيزيني باكياً في محاضرة ألقاها في تونس نهاية العام المنصرم، مؤكداً على "سقوط مشاريع جيله، وسقوط كل شيء"، وضرورة "البدء من الصفر"؛ صورةٌ بمنتهى الصدق لمن يعرف تيزيني، لكنها حتماً تحمل دلالات كارثية حول واقع ومستقبل لا دور للمثقّف فيه.

ليس بعيداً عن الفكر بل قرب أحد أخطر انعكاساته في الثقافة والمجتمع، ودّع العام سينمائيون عرب كثر يحضر اثنان منهم؛ المخرج محمد خان (1942- 2016)، الذي حاول طوال عقدين مضيا أن ينجو من أسئلة كبرى تحاصر واقعنا بمقاربة هموم صغيرة في أفلامه الأخيرة، وأن يذهب بالسينما إلى حيث يقبله المتفرّج التلفزيوني، والفنان محمود عبد العزيز (1946 - 2016) الذي يجسّد المرحلة ذاتها التي تُجبر مبدعاً حقيقياً أن يلعب "البطولة" في دراما تُعدّ على "مقاس" شركات تعيد إنتاج حياة الاستلاب التي نحياها في فرجة تُبعد قلق الجوع عن جمهور ينتظر مسلسلات في "الموسم الرمضاني".

عند هذه النقطة، يُصبح ترفاً الخوضُ في أسباب تراجع دور الفن والفنّان وانحطاط الذائقة لدى الجمهور، الذي ينقاد وراء خيباته وانكساراته نحو "نجوم" يجري تصنعيهم بشكل لافت وغير مسبوق، فهل يمضي عام 2016 من دون تذكّر المغني السوري عمر سليمان الذي حظيت أغانيه المبتذلة مشاهدات بالملايين، واستضافته إذاعات وقاعات عرض غربية باعتباره "ممثّلاً" لتراث بلاده.

يُختطف الفن والأدب والفكر بوصفه مرآة الواقع لصالح نمط استهلاك يحوّل الفرد في العالم العربي إلى متلقٍ سلبي لكلّ ما يُقدّم إليه، لا يتجاوز مدى انفعاله المدة التي يتعرّض خلالها للحدث، حتى لو كان بحجم إلقاء بائع سمك في شاحنة طحن النفايات!

المساهمون