جون بيرجر: في الطريق إلى فلسطين

جون بيرجر: في الطريق إلى فلسطين

04 يناير 2017
(جون بيرجر في القدس المحتلة، صيف 2008)
+ الخط -

استطعت بصدفة طيبة أن أجد بين ركام الأوراق وفوضى الحقائب، دفتراً سجّلت عليه أطرافاً من حديث أجريته مع جون بيرجر (1926-2017) في القدس المحتلة عصر أحد أيام أيلول/ سبتمبر 2008، عن محطات حياته وصولاً إلى فلسطين.

كأن الحديث بدأ عن أحد كتبه الصادرة وقتها عن دار نشر "وقت الكرز": "الاسم قادم من أغنية شعبية فرنسية تُغنّى في شهر مايو وقت قطف الكرز وهي مرتبطة بأيام 1968". كان جون في شمال مارسيليا أيامها وشارك في قطف الكرز وحملِه إلى الطلبة الثائرين.

حتى بداية الستينيات بقي في لندن، وبعدها انتقل إلى فرنسا. عاش في مدينة جنيف لبضع سنوات: "كان لدي قبل ذلك فكرة مغادرة بريطانيا وكان عليّ ترتيب ذلك حتى أستطيع ضمان عدم العودة إليها، لأنني لم أشعر أنني في وطني هناك.

عائلة أمي من بيرمنغهام وعائلة أبي كانت مهاجرة من مدينة "تريست" الإيطالية، تقع بعد فيينا على حدود يوغسلافيا سابقاً. جدي جاء إلى بريطانيا وأبي ولد فيها عام 1890 والأغلب أن جدي كان قد جاء في 1880". ما سجلته في ذاكرتي أن جون إيطالي الأصل وهذا يفسر تعبيره الحميم عن نفسه الذي يصعب تخيله داخل الثقافة الإنكليزية.

وعي النظام الطبقي الإنكليزي والموقف منه مفتاح أساس في شخصية بيرجر الذي لا يتحدث عن بريطانيا بمرارة بقدر ما يتحدث عنها بصرامة ووضوح:

"لندن اليوم مدينة متعددة الأعراق، وبالمقارنة مع أمكنة أخرى في العالم فالعروق المختلفة تتعايش بشكل ليس سيئاً. لا يمكن الحديث عن بريطانيا من دون الحديث عن النظام الطبقي الإنكليزي. كانت تجربتي تجربة طفل من الطبقة الوسطى. ولكن في عمر مبكر (حوالي 14 سنة) بدأت أصبح مُسيَّساً وواعياً للنظام الطبقي وأحتج عليه بطريقتي.

أجل، طوال حياتي كنت مسيساً. النظام التعليمي في بريطانيا جزء من النظام الطبقي. الأغنياء والذين يظنون أنفسهم أغنياء يرسلون أبناءهم إلى مدارس خاصة داخلية، وهذا ما جرى معي. أُرسلت إلى مدرسة داخلية من سن 7 إلى 13 سنة، وإلى مدرسة أخرى في سن 14 لأبقى فيها حتى 18 سنة، ولكنني هربت منها حين كنت في السادسة عشرة، في عام 1942 خلال الحرب".


* استفدت من الحرب؟
- استفدت من الحرب من خلال عثوري على مدرسة فن. حتى الثامنة عشرة كان عليّ أن أذهب إلى الجيش ولكني لم أخض حرباً. قضيت في الجيش 18 شهراً. عشت بعدها مع فتاة ما زالت صديقة إلى اليوم. تزوجت جندياً أميركياً ثم تزوجت بريطانياً.
حين خرجت من الجيش عام 1944 وبحسب القانون كان بإمكان من اشترك في الحرب أن يكمل تعليمه.
لم أكن عضواً في الحزب الشيوعي، ولكني كنت صديقاً للحزب الشيوعي.


* حتى اليوم؟
- سؤال صعب. لما صرت صحافياً لاحقاً كنت أكتب لصحف الحزب الشيوعي، ولهذا ظُنّ أنني شيوعي. لكن حتى اليوم لو طلبت مني صحفهم أن أكتب لها فسأكتب. كنت في تلك الأيام أعيش في بيت أستاذ لي ولاحقاً صديقي، روبرت ميدلي Robert Medley. كان رساماً جيداً وكان صديقاً لـ ت. س. إليوت، وكان إليوت يأتي للعشاء أحياناً وكنت أستمع لهما وهما يتحدثان دون أن أشارك.


* كيف كنت ترى إليوت وقتها، كان محافظاً؟
- كان إليوت محافظاً دائماً. كان بالنسبة إليّ نموذجاً لشاعر ممتاز أحب عمله ولكني أقف على طرف النقيض من سياسته، ولاحقاً بشكل أكبر رأيت ذلك في بورخيس. كان إليوت يتحدث كثيراً، فقط يتحدث عن شيء مهم بالنسبة إليه وممتع بالنسبة لنا. لم يكن يتقن الأحاديث الصغيرة. كانت لديه سخرية حزينة. لقد كان مجروحاً وليس مفكراً جافاً. في خطاب إليوت شيء بجودة الأدب الكلاسيكي العربي. لكن الشاعر الذي كنت أحبّه في ذلك الوقت هو ديلان توماس.


* متى سمعت بفلسطين لأول مرة؟
- لأول مرة في الكنيسة، عن فلسطين التوراتية. المدارس التي أرسلت إليها كانت كاثوليكية. سمعت بفلسطين من خلال أخبار الانتداب والدعاية الصهيونية التي كانت تتحدث عنها. لكن منذ 1948 أستطيع القول إنني كنت واعياً بالقضية الفلسطينية.


* هل عرفت فلسطينيين أو عرباً في ذلك الوقت؟
- كلا، أظن أني بدأت أعي أبعاد القضية الفلسطينية في الفترة الناصرية، نهاية الخمسينيات. ذهبت إلى موسكو في 1952 وهناك التقيت بفلسطينيين وعرب. لقائي الأول مع الكفاح العربي كان من خلال طلاب عرب في موسكو.


* ماذا كنت تشتغل في تلك الفترة؟
- بين 1951 و1954 كنت أعمل صحافياً. كان المحرر الأول الذي عملت تحت إشرافه هو جورج أورويل في مجلة يسارية اسمها "تربيون". كان محرراً قاسياً. كان يعلّم الصحافيين طوال الوقت الاقتصاد في اللغة واحترام المساحة والوضوح. وكان رجلاً حزيناً أيضاً. لقد رأى كثيراً. لا أقصد أنه شهد مآسيَ ولكنه كان يرى ما يحدث بوضوح ويرى ما سيحدث وفي منطقة ما كان يتمنى لو أنه لا يرى كل ذلك.


* ماذا كنت تعتبر نفسك وقتها؟
- ربما كنت أظن نفسي صحافياً، رغم أني لم أستعمل الكلمة في وصف نفسي. ربما كنت أعتبر نفسي جزءاً من شيء ما، كل نشاط متخيّل يمكن أن ينهي الرأسمالية، وهذا يعني أيضاً الإمبريالية والاستعمار. وإذا سألتني اليوم سأجيب نفس الإجابة. ولكن الوسائل التي كنا نستعملها وقتها ليست التي يمكن أن تعمل اليوم.


* دعنا نعود إلى فلسطين...
- بالطبع رؤيتي للنضال الفلسطيني تغيّرت حين زرت فلسطين لأول مرة عام 2003. الاشتباك الأساسي وأول نص لي عن فلسطين كان عن رسومات الأطفال الفلسطينيين في الكتاب الذي وضعه الفنان كمال بُلاطه (بعد انتفاضة 1987 وصدر عام 1990 بالعربية والإنكليزية تحت عنوان "شهود أوفياء").


* كيف كانت الأجواء حين تلقيت اتصال كمال بُلاطه؟
- كنت وقتها صديقاً مقرباً لإقبال أحمد، ولك أن تتخيل كيف يحكي هو عن فلسطين. كنا واعين للنضال الوطني الفلسطيني بين غيره من قضايا الشعوب. الفلسطينيون يعانون من نفس القوى التي نناضل ضدها. كانت فلسطين في نظري جزءاً من النضال العالمي الواسع، والآن يبدو لي أن فلسطين بسبب ظرفها الخاص جداً هي بالنسبة لي أنموذج Paradigm لما يحدث.
أنا واحد من رعاة فكرة المقاطعة الثقافية لإسرائيل وقد كتبت نصاً (متوفراً على الإنترنت) أشرح فيه أهمية المقاطعة، ولكني شرحت أن هذه المقاطعة يجب أن يتم تقريرها حسب كل ظرف وحالة. طلب مني ناشر إسرائيلي كتاباً فقلت له لدي واحد يبدأ بمجزرة قانا.
يجب أن تستمر المقاطعة. لا أعرف إلى متى، ولكن ما أعرفه أنها يجب ألا تتوقف الآن.


* لك علاقة خاصة بالمكسيك أيضاً؟
- ما تمنحه لي المكسيك وفلسطين هو الترابط الحسّي لماهية الحياة. قد يصعب علينا كشف علاقات القوة في كثير من المناطق بالنسبة للنظام العالمي، لكن علاقات القوة واضحة بشكل لا يضاهى في فلسطين والمكسيك. ما هو أساسي للإحساس بماهية العيش اليومي هو قبول التعددية. وهذا يؤدي إلى عيش اللحظة مع شعور بالكرامة.


* كيف تعلل هذا التنوّع الكبير في إنتاجك؟
- لأنني هربت من المدرسة في السادسة عشرة. بعد تلك السنّ المؤسسة تختلق التخصصات. المفارقة أنني ذهبت إلى مدرسة الفنون لأنني كنت أريد رسم نساء عاريات!

المساهمون