أن ترى.. أن تكون إنساناً

أن ترى.. أن تكون إنساناً

04 يناير 2017
(من فيلم "فصول في كوينسي" حول بيرجر)
+ الخط -

في ثاني أيام السنة الجديدة، رحل الناقد الفني والروائي والشاعر الإنكليزي جون بيرجر (1926 - 2017) في منزله في إحدى ضواحي باريس.

ليس من المفاجئ أن يرحل شخص في التسعين من عمره، لكنه أبى إلا وأن يغادر بعد أن احتفل العالم الفني بعيده قبل بضعة أشهر، ككاتب وناقد بارع، وإنسان قبل أي شئ آخر ألهم أجيالاً من محبّي الفن.

في مقدمة الجزء الأول من سلسلة "طرق في الرؤية" التلفزيونية، يظهر بيرجر على الشاشة وهو يمزّق وجه فينوس من نسخة للوحة "فينوس ومارس" لأليساندرو بوتتشيلِي، ويعلّق فوراً في صلب موضوعه: "أريد أن أسائل بعض الافتراضات المعتادة عن تراث الرسم الأوروبي (...) ليس الأمر متعلقاً باللوحات نفسها بقدر ما هو متعلق بالكيفية التي ننظر إليها في النصف الثاني من القرن العشرين، لأننا نراها كما لم نرها من قبل، وإذا عرفنا لماذا، ربما نكتشف أيضاً شيئاً عن أنفسنا وعن الوضع الذي نعيش فيه".

الوضع الذي كان بيرجر يعنيه هو الكيفية التي يسير بها العالم اليوم، وهذا الوضع أيضاً هو ما استمر الكاتب الإنكليزي في انتقاده وجعله في صلب أعماله النقدية والروائية، وحتى في مقالاته التي تقارب السياسة من زاوية الفن: ضد الرأسمالية وضد الظلم والقهر، وضدّ تجاهل السياقات والظروف المحيطة بالعمل الفني والفنان وقت إنتاج عمله، و"ضد هزيمة العالم الكبرى" كما اقتبس من الشاعر الأرجنتيني خوان خيلمان.

الهزيمة عند بيرجر هي الاستسلام أمام الرأسمالية المتوحشة التي سلّعت كل شيء، ضد سلب الروح وسلب الرؤية. لا يقترح صاحب رواية "ج" طريقة واحدة متزمتة في النظر إلى العمل الفني وتفسيره، ولا حتى ينظّر إلى مدرسة واحدة في الفن، بل على العكس، كناقد ماركسي لا اعتذاري هو أقرب إلى المدرسة الماركسية الثقافية.

مستنداً إلى مقالة المفكّر الألماني فالتر بنيامين الشهيرة "العمل الفني في عصر الاستنساخ الآلي" التي كانت قد ترجمت إلى الإنكليزية حديثاً آنذاك، قال بيرجر في "طرق في الرؤية" أن عملية رؤيتنا للوحات والصور وأي شيء آخر أقل طبيعية وعفوية مما نتخيّل، بل تعتمد على العُرف والعادة.

في عصر الرأسمالية وإعادة الإنتاج، لا تستقر العلاقة بين ما نراه وما نعرفه أبداً، وتتضاعف المعاني المحتملة للعمل الفني مع كل استنساخ ويضيع المعنى الأصلي. الفكرة هي في أن نشكّ في كل ما ننظر إليه.

بعبارة أخرى، يمكننا فهم أن ما أراد بيرجر تعليمنا إياه هو فن الرؤية، أي كيف ننظر إلى الفن في عصر إعادة الإنتاج الذي يخلق نسخاً متغيرة لا متناهية من لوحة ما، وبالتالي سياقات لا متناهية تتغير كلما تغيرت وجهة نظرنا إلى العمل بحسب الظروف التي نعيشها والظروف التي تتواجد فيها نسخ العمل أيضاً.

منذ أن ذاع صيته مع كتاباته النقدية اللاذعة في مجلة The New Statesman، ثم بالخصوص في سلسلة "طرق في الرؤية" التلفزيونية التي عرضت على الـ BBC عام 1972، أصبح الكتاب المرافق الذي تلاها بذات العنوان قراءة ضرورية لكل مهتم بالفن.

أحدث ضجة أيضاً عندما نال جائزة البوكر عن روايته "G" سنة 1972 بعد أن أعلن عن نيته تقاسمها مع "حركة الفهود السود"، ليستثمر النصف الثاني في تمويل كتابه التالي عن العمّال المهاجرين. منذ ذلك الوقت، يصعب إحصاء الأثر الذي تركه بيرجر بكتبه ومقالاته الكثيرة على أجيال من جمهور الفن والنقد، كيف شكّل معرفته بأسماء تناولها مثل بوش وبيكاسو وجياكوميتي وغيرهم الكثير.

كتب بيرجر أيضاً بعيداً عن الفن؛ عن العمال المهاجرين وعن العراق وفلسطين، لكن بالإمكان الذهاب إلى أي مكتبة رئيسية تجارية في مدينة نيويورك أو لندن لنجد أعماله معروضة ضمن الكتب "الموصى بها" أو "الأكثر مبيعاً". أمر غير اعتيادي لناقد يؤمن بالماركسية منذ شبابه.

في تمهيده لكتابه ما قبل الأخير "صور" (2015)، كتب بيرجر أنه لطالما كره بأن يطلق عليه لقب "ناقد فني"، لأن اللقب كان إهانة في المحيط الذي نشأ فيه، فهو يُطلق على شخص يتحدث في ما لا يفهمه. لذلك طالما فضّل لقب "حكواتي". ولكي تكون حكواتياً جيداً "عليك أن تكون مستمعاً جيداً"، كما ذكر في أحد حواراته.

يعتبر بيرجر أنه ينقل حكاية الفن عبر التاريخ. في "صور" جُمعت مجموعة من أفضل مقالاته عن الفن، من رسومات الكهوف وحتى أعمال الرسامة السورية الشابة رندا مدّاح، وفي كتابه الأخير "مناظر طبيعية: جون بيرجر عن الفن" (2016)، جُمع عدد من مقالاته وترجماته وشعره عن الفن وعن الكتّاب الذين أثّروا في حياته أيضاً.

اقترح بيرجر طرق رؤيا للعمل الفني كأيقونة أو كسلعة، مدركاً أن النظر مسيّس أيضاً نتيجة البيئة السياسية والاقتصادية التي ينطلق منها. في عصرنا هذا، تبدو مساءلة الظاهر وإعادة اقتراح طرق للنظر إلى الفن أكثر الحاحاً الآن خصوصاً مع التطوّرات التي واكبت الرأسمالية في مرحلتها المتأخرة، فإعادة الاستنساخ وإنتاج المعاني مهّدت لعالم ما بعد-الحقيقة: عالم لم تعد تهمّ فيه الحقائق ولا الوقائع.

لهذا بقيت تعليمات بيرجر حتى عقده التاسع كما كانت دائماً: انظر، استجوب، وكن مشكّكاً دوماً. في عالم بشع يُنهَش الفن لصالح السوق كما يُنهش الفقراء لصالح الأثرياء، تبدو مساءلة الرؤية كما فَعَل بيرجر فِعلَ مقاومة وأمل.
عليك أن تكون إنساناً.

دلالات

المساهمون