"أركاديا" عبد القادري.. بلوغ أرض الطمأنينة

"أركاديا" عبد القادري.. بلوغ أرض الطمأنينة

21 يناير 2017
("النذر"، 2016 / عبد القادري)
+ الخط -

يحمل عنوان معرض الفنان اللبناني عبد القادري، "أركاديا"، الذي يفتتح غداً الأحد في "غاليري البارح للفنون" في العاصمة البحرينية، المنامة، دلالة نُسجت حولها، على الأرجح، معظم الأفكار التي راودت الفنان أثناء اشتغاله على ما يشبه النصّ في موضوعات أعماله الأخيرة.

أعاد القادر -الذي منح "جائزة متحف سرسق" في بيروت أمس- النظر في تلك الأعمال، وتحديداً التي تصوّر مأساة غرق المهاجرين في البحر المتوسط، محاولاً استقراء المسافة في موقفه الإنساني والخوض في ميتافيزيقة الموت وتقديم وجه نظر إنسانية لا تركّز على المأساة بقدر ما تفتح باباً لما هو أبعد من حتمية الفناء: الانتقال إلى عالم آخر أكثر طمأنينة.

البداية جاءت عن طريق الصدفة حين وقعت بين يدي القادري (1984) لوحة بالفحم لحبيبين من رسم فنانٍ مغمور، قبل أن يغادرا السواحل اللبنانية متّجهين إلى اليونان بحثاً عن حياة أفضل. إلا أن الزوجين/ الحبيبين لم يُعرَف عنهما أي جديد. في قصة اختفاء الزوجين رأى القادري صورة لمفهوم البقاء محوّلاً إيّاهما من بشريَّيْن فانيَيْن إلى كيان أزلي اكتسب صفاته خلال عبوره العالم الأرضي بماديته، والتوحّد مع الطبيعة المنشودة في ما يُدعى أرض الأحلام.

فالمعرض "أركاديا" مأخوذٌ اسمُه من اسم محافظة يونانية يعود تاريخها إلى العصور القديمة. في الأساطير اليونانية، كانت أركاديا أرض إله البراري، وفي فنون عصر النهضة الأوروبية، احتُفِي بها باعتبارها أرض الأحلام أو الأرض الموعودة.

بعد أن عمد القادري إلى تصوير الحبيبين بسترتَيْ نجاة ظناً منه أنه يكمل ما بدأه في معرضه الأخير، كان للرجل والمرأة ما أراداه، وهو بلوغ السواحل الآمنة، حيث النعيم. وبدلاً من أن يبتلعهما البحر، نما العشب على جسديهما، تسلّق أكتافهما، واستحال ذلك الجحيم الأزرق نعيماً، إنه البحر نفسه الذي تناوله في معرضه الأخير "يا بحر" (2016)، والذي تضمّن أعمالاً حوّل فيها الفنان اللبناني وجوه الغرقى إلى أيقونات تراجيدية ملؤها التعب والألم والعذابات.

بعد أكثر من عشر سنوات من تناول المواضيع الاجتماعية والسياسية، يقدّم القادري هذا المعرض على اعتباره شكلاً من أشكال المهادنة بينه وبين الواقع في منطقة مزّقتها النزاعات والحروب.لكنه في معرضه الجديد، يقترب من عالم تخييليّ لأرضٍ جديدةٍ غنّاء، ووعدٍ بعيش آمن، ليحرّر شخوصه من سطوة التراجيديا، وبدوره حرّر نفسه بهما، ربما لإيصال أولئك الذي قضوا على شواطئ الغرب، أو طمعاً في الوصول وإن مجازياً، إلى "أركاديا".

الفنان الذي استقرّ في لبنان عام 2015، بعد تسع سنوات من العيش خارج بلاده، عاد ليركّز في عمله على الجوانب الإنسانية المعاصرة والمرتبطة بالإرث الثقافي البصري العربي (كما في معرضه المقام في 2014) والحروب والهجرة والانتماء. ومع عودته حاول أن يبني جداراً مؤقتاً بينه وبين الحقيقة القاسية لهذا العالم؛ انقطع عن مشاهدة التلفاز لأكثر من سنة، متجنباً النظر أو متابعة أي من الأحداث المروّعة عن الحرب والدمار في المنطقة، والتي تتناولها وسائل الإعلام الدولية ومواقع التواصل الاجتماعي دون توقف.

لعدة أشهر بدأ القادري بخلق حيز فيزيائي حميم عبر زرع الباحة الخلفية لمحترفه بالأشجار والأزهار في قلب بيروت، المدينة المزدحمة بالاضطرابات والأجواء المشحونة. كان قد بدأ يمارس الزراعة والاهتمام بالحديقة، الأمور التي أصبحت ممارسات ملازمة لطقس الرسم والتلوين، وكانت كفيلةً ببثّ حياة جديدة داخل فضائه الفكري واللوني. لكن ومنذ عام 2015، بدأت قسوة الواقع تخترق الجدار المؤقت الذي بناه الفنان لتصل إليه، وتتحوّل إلى حقائق فنية في أعمال معرضيه الأخيرين.

المساهمون