الحرية كافتراض

الحرية كافتراض

17 يناير 2017
أحمد برهو/ سورية
+ الخط -

يتطرق الحديث أحياناً إلى ما يجري في "الوسط الثقافي" وكأن هناك مثقفين من الباحثين والأدباء والفنانين يعقدون اجتماعاتهم في "وسط" ما، يتداولون في أمور تهمّ البلد والمنطقة والعالم. وقد اجتمعت كلمتهم على التعاضد والتكافل. هذا غير موجود، وإذا كانت يافطة اتحادات الكتاب ترفرف عالياً، فدلالة على انشغالها بالانتخابات الدورية؛ فالاتحاد شعار ينبغي أن يبقى مرفوعاً.

مؤخراً أصبح هناك ما يمكن دعوته بـ"الثقافة الافتراضية"، الشعارات تفرقها أكثر مما تجمعها. تمثل مجتمعاً أكبر من مثقفي الاتحادات، وأكثر انفتاحاً منها على الفضاء العام، يضم قارئين متابعين لكل جديد، والتعليق عليه سلباً او إيجاباً، ومتابعين لما يجري في السياسة والمجتمع، يستسهلون الكتابة عن جميع الأمور، يتعاملون معها باندفاع وخفّة لا يخلوان من مخاطرة عدم الالتزام بقواعد المنطق. أما الساحة، فلوسائل التواصل الاجتماعي، ما يوفر مجالات غير محدودة للقول والانتشار.

في الحقيقة، "الربيع العربي" أحد العوامل المؤثرة في هذا الوضع الانتقالي، فصنّاع الثقافة الهواة دخلوا معتركها ومعاركها من بوابة الشأن العام، وتقرير وجهة المستقبل، حثّهم عليه اشتباكهم بحروب المنطقة، ما استدرجهم إلى الانهماك فيها.

تجربة واعدة بحد ذاتها، فالثقافة حرية لا تساعد عليها الوسائل القديمة، فرصة يجري انتهازها قبل أن تمتد إليها الرقابات المحلية السلطوية والاجتماعية والأدبية. لا ننسى، قوانين المحاكم إذا استدعى الأمر، تشمل حتى الهواء الذي نتنفسه. لا سيما أنهم يتناولون القضايا الكبرى، من دون إهمال القضايا الصغرى، مع التشكيك بهما، فمن الوطن إلى القومية، والعدالة وفلسطين والطائفية والتديّن والتاريخ والتراث والإيمان والإلحاد والكفر والتكفير والتفكير والعقل والجنون والسلطة والتسلّط والقتل والتعذيب... كم هناك من قضايا متشابكة مع بعضها بعضاً تفتح سيلاً من الأسئلة لا تتوقف، وكلّها عالقة بلا إجابات، فالإشكالات القديمة على حالها، لم تمت، كانت في تجدّد دائم.

في زمن مضى، كان القول الرائج هو أن طرح الأسئلة يقدح زناد الفكر، ويبدو أن زناد الفكر لم يطلق أجوبة، لم يكن إلا غوصاً في المعميات. اليوم تتراكم التساؤلات. لم تعد في دائرة التفكير فقط، صارت تواجهنا على أرض الواقع، المدخل إليها العالم الافتراضي، وهو عالم ليس بوسع رواده الخوض فيه إلا على سبيل الاستعراض، فالعالم يبدو لهم عبثياً لا يستحق أكثر من السخرية. بينما الثقافة على خط النار، ولا جدوى من تكديس أسئلة بلا إجابات، هناك ملايين من البشر لا يعانون من العبث الميتافيزيقي، وإنما من الموت العبثي، ويدفعون ثمن العيش؛ شظفاً وجوعاً وبرداً وقهراً وموتاً.

في هذا الفضاء المفتوح، قد تصبح أمراضنا أشدّ فتكاً تحت ظلال حرية لا مسؤولة تتجرأ على كل شيء ولا يعوقها شيء في فضاء لا قواعد تحكمه سوى المتعة التي يوفرها الافتراضي لا الحقيقي.

ألن تُضلِّل الحريةُ المطلق عقالها أكثر المحرومين توقاً إليها؟

المساهمون