الدّمى لا تستيقظ

الدّمى لا تستيقظ

14 يناير 2017
(جزء من لوحة "الموكب" لـ فرانسيس بيكابيا/ فرنسا)
+ الخط -

أفتحُ النافذة.
ولكنّ البشريةَ كلَّها عاريةٌ، أيها الطفل. والبطاطا مدخل مناسب لقراءة التدرّن على جبين اليانكي. ممّ تتكوّن البطاطا يا تُرى؟ من ملايين الأحلام تحت التراب، وبعض الزمن تحت التراب، والقليل من السياق الزراعي، تحته أيضاً.
وأين تُخزّن؟ في أماكن باردة ومظلمة كعقول الأميركان.

أفتحُ النافذة.
ولكنّ البشرية كلّها باردة ومظلمة أيها الطفل.
على أنّ بشاراً (وهو "كل شيء"، قياساً بـ "نيرون") مُحنّكٌ في نزع ملكية الناس لأجسامِهم، بأدواتٍ مستقدمة من هذه الدولة أو تلك.
ما يُعزّي المرء ـ وقد انغلقت الأبواب ـ ليس سؤال: متى تستيقظ الدمية؟ بل النظر إلى الموضوع بتسامٍ كئيب والقول إن الجلاد مجرّد بلوى تاريخية طارئة، وإن طالت.

أفتحُ النافذة.
ولكنّ البشرية كلها طارئة، أيها الطفل. وإتلاف الروح، قبل إتلاف البضائع منتهية الصلاحية، عضال رأسمالي. لكنْ، إذا كنا نحن "رجل العالم الميت"، فهم أيضاً "رجل العالم المريض". ولا داعي لتذكّر ذاك المَثَل.
لقد أمسيتُ في كوخي مدمناً القهوةَ الإسبانية، لسببٍ مريب: ميوعتها وقلة الكافيين فيها. كما علّمني نبلُ غريزة الحيوان أكثر مما فعلتْ سلالةُ الناطقين: يأكل الضروري كي يعيش ولا يتملّكه نازع التملّك. نازعُ التملّك؟ ملهاة ومأساة نوعِنا تكمن في مهاوي هذه الكلمة.

أفتح النافذة.
ولكنّ البشرية كلها تحب الكماليات، أيها الطفل. واليمين الغربي ـ كما لا شك عرفتَ لمّا كبرت ـ في ورطة. وأنا أشرب الآن القهوة الثامنة، وأتأمل الحالَ مبسوطاً على حذَر.
ليش؟ لأنّ الفرح لن ينقرض مهما تجبّرت إمبريالية لصوص وسارقي الكُحْل. سيأتي وقت وتقصف طائرات الـ إف 35 مواطنيَّ في بلدي. الطائرة الشبح ستتعامل معهم من صقيع العلاء التجريدي كأشباح أيضاً. مع ذلك لا يخلو ـ ولن يخلو الأمر ـ من لمعة فرح واندلاع قوس قزح في عين جدّة تُسحّج في زفاف حفيد ابنها.
إنها طريقة شعب في اجتراح المقاومة: طريقته في الحفاظ على بقائه التاريخي. ومن يرى أنّها طريقة تجاوزها الزمن، فليشرب من بحر تشظّيه المالح.
الجار الأفريقي يجزّ العشب بالماكنة في الحاكورة. أنتبه وأتقاعس عن الشهيق. أنتبه وأُنصت إلى نواح قرونٍ تتصادى من جهة الجنوب. جدّات وأمهات ما قبل الصناعة يَنُحن على فقدان أعزاء. هل تغيّر حقاً البؤس الإنساني؟ لقد اختفى تحت تلال من الماكياج، السفسطة والثرثرة (مع الاعتذار الواجب لأولئك المظلومين في أثينا تلكم الأيام).

أفتح النافذة.
فيؤكد كثير من الباحثين أهمية دراسة جناح الفراشة الأيسر، ليعرفوا سبب اندفاعة اليمين الأوروبي، نحو كارثته المرتجاة قريباً. ومما لا شطط فيه أن الحجر ليس هو الحجر ذاته بعد ثوان (وإن سها هيراقليط عن ذلك). أما الهواجس، فتختلف عن الحجر كمّاً ونوعاً.
ثم إنّ جينا الفنزويلية، مع طفلها النحيف دييغو، لَيَشْلَعان القلب. أسمعهما عبر الحائط الرقيق بين غرفتينا ـ هو يجتاحه الكابوس فيجمجم ثم يحشرج: "كِيْ باسا"، وهي تهدهده بما يُشبه النشيج: اِهدأ.
يهدأ الولد فيعمّ السكون، وينتظرني الفجرُ بالسؤال: حقاً أيها العالم، كي باسا؟ فعلى الرغم من إنتاجها الوفير للمطر، كتالونيا بعدُ لم تبلّل قلوب لاجئيها.

أفتح النافذة.
ولكنّ البشرية كلها ناشفة، أيها الطفل. السباق واحد، والفرق فقط في الاتجاه: الأوروبي يهرب إلى الأمام، والعربي إلى الوراء. وكما تزحزحت القارّات قديماً، تتزحزح الأجناسُ الأدبية حالياً. ومن لا يروقه هذا "الحراك السلمي"، سيظل يدور في ثقب الأوزون. مع أن مثقفينا يصعب عليهم الإقرار بتلك الحقيقة العتيقة: إنهم كالزائدة الدودية، لا نفع ولا وظيفة.
نعم أيها الطفل: في ديسمبر 2016 ما يزال يعجبني الشعر الجاهلي، والشكل القديم لشجرة الجميز، ووفاء ماركيز لكاسترو. مع أنها غير ذات صلة: نجواي هذه وأنا معلّق على جُرْف.

أفتح النافذة.
ولكنّ البشرية كلها معلّقة، أيها الطفل. وعلى الذين يجزمون بأنه ما من أثر للوسيط بين الإنسان ومملكة الحيوان أن يلتفتوا قليلاً حولهم.

أغلقُ النافذة.
لا، ليس أنانية. هو بَسْ استغراق في الذات.

المساهمون