زكي نجيب محمود.. مفترق طرق فكرية

زكي نجيب محمود.. مفترق طرق فكرية

08 سبتمبر 2016
زكي نجيب محمود في بورتريه لأنس عوض (العربي الجديد)
+ الخط -

خلال ثلاثينيات القرن الماضي، نشطت في إنكلترا تيارات الفلسفة التحليلية والوضعية المنطقية بفضل أعمال الفيلسوفيْن غوتلب فريج وبرتراند رسل.

تقوم هذه الفلسفة على ضرورة التحليل المنطقي للخطاب، والتمييز التام فيه بين لغة الإشارة من جهةٍ أولى، أي ما كان مشيراً إلى وقائع موضوعية يمكن التحقق منها، وهي لغة العلم، في مقابل خطاب الإثارة من جهة ثانية، الذي يحرّك الوجدان ويَعْطِف القلوب، وهو خاصٌّ بالفنِّ والدين.

ورغم البساطة الظاهرية لهذه الثنائية التي أقصت الميتافيزيقا من دائرة التفكير الفلسفي، فإنَّ تطبيقها على الفكر العربي الإسلامي لم يكن مهمة يسيرة. كان رائد هذه المحاولة المفكر المصري زكي نجيب محمود (1905 - 1993) الذي يصادف اليوم ذكرى رحيله.

تنقّل صاحب كتاب "تجديد الفكر العربي" بين جامعات إنكلترا ومصر وأميركا والكويت، جاهداً، على مدى ستين سنةً، في سبيل توطين هذه الشكلانية الصارمة داخل مجال الثقافة الإسلامية، على ما فيه من فخاخٍ وعوائق معرفية. فكان له الفضل في إشادة نسقٍ فلسفي-أدبي كامل، يتغذى من الفلسفة التحليلية المتركزة على البحث اللساني المحض، وآلياته من سبر منطقي ودلالي، يُطبقان على سائر مناحي الحياة الفكرية العربية.

لكن كيف تهاوى كل ذلك للنسيان، ولم يبق سوى نظراتٍ وأعمالٍ جزئية، على قطاعات ضيقة من نشاطه الثقافي؟ قبل ذلك، ماهي الخصائص التي ميّزت النسق الفكري لمحمود وهو يحاور العالم العربي وقضاياه الفكرية منذ الحرب الثانية إلى نهاية الثمانينيات من القرن الماضي؟

يعتبر المفكر المصري من أول المساهمين وأثراهم في توليد المصطلح الفلسفي العربي الحديث، فقد أمدَّ اللغة العربية المعاصرة بعدد من المصطلحات الفلسفية المبتكرة. ذلك أنَّ هذه اللغة لم تعرف حركة نقل فلسفي منذ القرن التاسع الميلادي، حين ازدهرت حركة الترجمة الفلسفية، في أروقة "بيت الحكمة" في بغداد، زمن الأمين والمأمون بالخصوص.

فقد عُرِّبت في عصريهما العديد من مفردات الفلسفة الإغريقية، ليدخل بعدها المصطلح الفلسفي العربي مرحلة ركودٍ، امتدت ما يقرب إلى عَشرة قرونٍ.

لم يكن التوليد المصطلحي ليستعيدَ حركيته إلا في أربعينيات القرن العشرين، من خلال القفزة النوعية التي دَشَّنَتها كتابات محمود وفيه ترجمَ وابتكر عشرات المفردات المُجرّدة، لا سيما في مُصَنَّفه "قصة الفلسفة الحديثة" (1936)، وكذلك في نقله لـ "محاورات أفلاطون"، وفيهما برع في استخدام المفاهيم والمفردات، التي اشتقّها من العربية الأصيلة، فاستعاد ما في تيارات الفلسفة الغربية الحديثة والوسطى من مبادئ ومقولات، تغطّي كل الحقول الدلالية. وهذا الإسهام الاصطلاحي، لَمِمَّا غَمطه فيه الباحثون حقه، فلم يشيروا إليه إلا لماماً.

على أنَّ الإسهام الأكبر لهذا المفكّر يكمن في محاولته الجريئة لتطبيق مفاهيم الفلسفة التحليلية، التي حصرت مهمة الفلسفة في "التوضيح المنطقي للفكر" - حسب عبارة كارناب - على التراث العربي الإسلامي وإنجاز قراءة توضيحية شاملة لكل ما كُتب طيلة قرون في مختلف ميادين المعرفة الإنسانية من فلسفة وأدب وكلام وعلوم.

لقد عمل محمود على التمييز داخل ذلك التراث الضخم بين دوائر الإثاري والإشاري، أي الذاتي والموضوعي، وصاغ نتائجه في كتابه الأساسي "المعقول واللامعقول في تراثنا الفكري"، وفيه قرأ بعمق أمهات كتب التراث وأبرز فلاسفته ومثقفيه في أكبر عملية تقييمية، مع مقارنة ذلك الموروث بما وصلت إليه الوضعية المنطقية من نتائج فلسفية.

قام هذا التقييم التحليلي على ضرورة المواءمة بين ضرورات العلم، والمنطق والدين والتصوّف والحرية، أو على الأقل كان ذلك أمله، فيُزاوج بين مستويات الوعي هذه ضمن خطاب واحدٍ، تزول منه المتناقضات، وتتقارب داخله الرُّؤى، لا سيما لدى العربي المسلم الذي يرزح تحت طائلة خطابات سلطوية شديدة التنافر. وهذا ما أنجزه في كتابه الأخير "حصاد السنين" (1991).

كما أسفرت هذه المسيرة الفكرية الدؤوبة عن ضخ جرعة كبيرة من أدوات المنطق الصوري- التحليلي في شرايين الثقافة العربية، وجعل الرياضيات والعلاقات الشكلية بين القضايا المنطقية جزءاً من مشهدها الفكري، فلم يعد مجرّد تراكم للمعارف الخطابية، وخلطٍ لبلاغات ومضامين لا رابط بينها، بل صارت ميداناً للتحقق والتوضيح المنطقيين.

تجرَّأ المفكر المصري على ما كان ديكارت قد أنجزه تحت مُسمى tabula rasa؛ أي المحو الكامل للمعاني، داخل خطابٍ ما، بغرض إعادة تشييدها على قاعدة ذهنية صلبةٍ. وهكذا، لم يفلت منه أي تيار فكري، إذ ثابر على الاطلاع على مختلف العلوم، قديمها وحديثها، ودعا إلى تمثّلها وشرحها للقارئ وتفكيك مضامينها وتحليل أبنيتها المنطقية والخطابية قبل أن يترك له الحريَّة في اختيار الموقف الذي يلائمه منها.

وبَيَّن في رشاقة جريئة - متبعاً في ذلكَ رأيَ أستاذه فيتغنشتاين- أنَّ أغلب السجالات الإنسانية إنما تعود إلى سوء صياغتها لغوياً أو عدم تماسكها مَنطقياً، وتَؤول في نهاية المطاف إلى مجرد سوء فهم أو خطأ في العبارة والتقدير، أو خلط بين مَجاليْ الإثارة والإشارة.

حمل زكي نجيب محمود مَشروعاً نقدياً متكاملاً، ضمَّ بين دفَّتيْه رؤية نسقية لكل قضايا إنسان ما بعد الحرب العالمية الثانية حتى منعطف التسعينيات، أي قبيل الثورة الإعلامية والرقمية، حين كان العالم ما يزال يحلم بالمواءمة - ضمن الرؤية الفلسفية الواحدة- بين اقتضاءات الروح والعقل، الحرية والجبر.

كان خطابه متكاملاً لأنه هضم سائر التيارات الفلسفية الأنغلوسكسونية ولا سيما التحليلية، واستعاد من خلالها مقالات أسلافه العرب، وكان من ثمرات تلك المكافحة، حصادٌ يقارب الستين كتاباً، صيغت في لغة سلسة وأسلوبٍ متين، غير أن قطيعة في التلقي حالت دونه ودون جماهيرية موسّعة.

لا يزال منجز محمود أمامنا قادراً على تغذية بعض تيارات الفكر العربي الجديد، فالفلسفة التحليلية أداة تفيد في نقد الفكر، وتعرية سقيم الصياغات وخاطِئِ التأويلات.


المساهمون