تاريخ المسلّة

تاريخ المسلّة

26 اغسطس 2016
رافع الناصري/ العراق
+ الخط -

قيل إن بعض ملوك مصر القدماء كانوا يمحون أحداث أسلافهم المحفورة على المسلات، أو الجدران، ويكتبون سِيَرهم وتاريخ حروبهم وإنجازاتهم، حتى يأتي الحاكم الذي من بعدهم، فيمحو التاريخ المسجّل على المسلّة، ويكتب من جديد تاريخه وحده. سلسلة لانهائية من إلغاء المنجز المحلي ومحوه، وإهدار أي تراكم ممكن فيه.

لا يمحو الملوك التاريخ كلّه (فهم أعجز من أن يفعلوا ذلك، وفي هذا يتجلّى ضعفهم الإنساني، وضآلة قدرتهم التي يحاولون تصويرها كلية، وقادرة، ولا تمكن زعزعتها)، بل التاريخ المحلي وحده، أي تاريخ بلدانهم، أو تاريخ شعوبهم، أو تاريخ الملوك الذين سبقوهم.

الظاهر أن منطق المسلّة، أو منطق محو المسلة، استمر طوال عهود التاريخ، وأنه ما يزال فاعلاً، واللافت في الأمر هو أنه يمتد إلى حقل الثقافة في أيامنا، إذ تقابل محاولات بعض المفكرين العرب لإحياء أفكار النهضة العربية بالسخرية، وثمة من بات يضع هذا الاسم، أي النهضة، أو الفكر النهضوي، بين قوسين، كي يشير ضمناً إلى ازدرائه له، أو تشكيكه في جدوى المسائل التي ناقشها.

إنها عدمية ثقافية ترفض السابق دون أن تحاوره، وتظن أنها تستطيع دائماً أن تبدأ من حيث تقف من دون أن تكون لديها أية ديون مسبقة. فإذا كان عصر النهضة، قد فشل في تحقيق المآرب الفكرية والسياسية التي سعى إليها، فإن الوقائع تؤكد أنه لم يكن عبثياً. وهو يحتاج إلى شجاعة التفسير والفهم لما كان حقيقياً أو زائفاً في الوعي النهضوي. وإن البحث عن أسباب الفشل أكثر حكمة من رفض الفاشل، وتقريعه.

يمكن لتاريخ المسلة أن يكون تأريخاً للقطيعة بين الأجيال، أو بين الثقافات، أو بين البشر في هذه الحالة. وهي تفضي إلى تجاهل التراكم المعرفي المكتسب في المحلي أو الوطني أو القومي. وتزداد هذه الميول في الزمن الذي ترضخ فيه الثقافة للراهن المعطوب سياسياً.

في مناقشته لأبحاث الندوة الفكرية التي عقدت في المغرب عن الرواية العربية، يلاحظ فيصل دراج في كتابه "الوقع والمثال" أن معظم المشاركين في ندوة "الرواية العربية: واقع وآفاق" قصروا مراجعهم على أسماء أجنبية من باختين حتى تشومسكي، بينما لم يذكر اسم كاتب عربي واحد من طه حسين حتى جورج طرابيشي. يسمّي دراج هذه الظاهرة بـ "غياب الحوار" أو "حصار واهتزاز الشخصية الثقافية العربية التي تعرف كل ما هو "أوروبي" وترفض كل ما هو عربي".

وهكذا لا تمحو الثقافة ما كُتب على المسلة هذه المرة، بل هي تلغي وجودها، وتنكر أن يكون أحد "الأشقاء" قد تمكن في أي يوم من استخدام إزميل الفكر لحفر العلامات، أو بناء المنارات، أو ابتداع الجديد.

كان المثقّفون من المدرسة الشارترية في إنكلترا، يقولون إنهم يجلسون على أكتاف من سبقهم، ولهذا يرون أفضل منهم، وأبعد منهم. ليس بسبب حدة بصر أكبر لديهم، أو كفاءة خاصة، وإنما ببساطة لأنهم يتمتعون بموقع أعلى وذلك بفضل القامة العملاقة لمن جاء قبلهم.

المساهمون