محاورة الذاكرة

محاورة الذاكرة

15 اغسطس 2016
من فيلم "قائمة شيندلر" لـ سبيلبرغ
+ الخط -

لا تتخلّى السينما، في غالبية الدول الغربية التي تصنعها، عن تاريخ بلادٍ أو مجتمعاتٍ أو أناس. التاريخ، بالنسبة إليها، ليس بعيداً، مهما كانت الأعوام موغلة في القِدَم. والحكايات، التي يختزنها التاريخ، كثيرة، وإنْ تناولتها أفلامٌ عديدة، وروتها بأساليب مختلفة.

العلاقة بين السينما والتاريخ متينة، إذْ تعثر الأولى في الثاني على مفاتيح بصرية وجمالية وفنية لولوج عوالم، واستحضار حالات، وفهم وقائع، لا شكّ في أن بعضها مرويٌّ، وبعضها الآخر غير معروف بعد، سينمائياً. بينما يجد الثاني في الأولى نوعاً من توثيق لما يختزنه من معارف وصُور وحالات.

التاريخ أوسع من قدرة السينما على اختزاله. هذا مؤكّد. فصلٌ واحدٌ منه، مثلاً، يبقى أكبر من أن تُعاينه السينما برمّته. لعلّ السينما تُفضّل التاريخ الأقرب. لعلّها تريد ما ترتكز عليه في إنتاج أفلامٍ يُفترض بها أن تكون سينمائية أولاً، فتتحرّر من الخطاب والتلقين.

لكن التاريخ ممتد إلى ملايين السنين، والماضي لم يُروَ كلّه، لا عبر الكتابة ولا من خلال التوثيق التأريخي أو الأدبي أو الأكاديمي. والفصول الأقرب، زمنياً، "أقدر" على تحريض مخيّلة السينمائيّ، وتنبيهه إلى مقتنياتها المهمّة.

هذا ليس ثابتاً كلّياً. هو أقرب إلى صوابٍ تعيشه السينما في علاقتها بالتاريخ. الفصول الأقرب، زمنياً، لم تُروَ بكاملها أصلاً، سينمائياً. هذا ما يحدث بين فنيةٍ وأخرى. الحربان العالميتان الأولى والثانية، نموذج حيٌّ. المعارك والمواقف الفردية والاشتباك الميداني بين الواجب والأخلاق، وغيرها من العناوين، تُشكّل نواة درامية لأفلام لا تنضب.

70 عاماً على نهاية الثانية، و98 على الأولى، والسينما لا تزال تعثر فيهما، لغاية الآن، على "ما لذّ وطاب" من مواضيع وانفعالات. في حين أن معارك نابليون بونابرت مثلاً تحضر، بشكل أقلّ، في النتاجات السينمائية، التي يغلب عليها الطابع الوثائقي.

"المحرقة"، التي ارتكبها النازيون بحقّ اليهود، لا تزال تنتج مزيداً من الحكايات الفردية تحديداً، التي لا يملّ سينمائيون كثيرون من نبشها من خزائن الذكريات المعلّقة. يقول البعض إن هذا مرتبطٌ برغبةٍ في تذكير العالم، دائماً، بالجريمة التي صنعها أدولف هتلر.

قد يكون هذا صحيحاً. لكن الحكايات، بحدّ ذاتها، لا تنتهي، وكثيرٌ منها مخبّأ في الماضي. السينمائيون المهتمّون بها يُنجزون أفلاماً تمتلك خصوصية الإبداع البصري، التي تساهم في حماية القصص الفردية من النسيان.

هذا موجود في أميركا والغرب الأوروبي. التاريخ، هناك، لا يرحم، والسينما تريد أموراً عديدة من استعادة فصوله: الاغتسال من بشاعته، وتحصين ذاكرته من الغياب. التلاعب حاضرٌ، أحياناً. وعندما يحدث، ينتفض مؤرّخون وباحثون، ويناقشون الصنيع، ويُساجلون من صنعه. لكن السينما ليست "درساً في التاريخ"، ولا تستطيع أن تكون شريطاً "تسجيلياً" بحتاً. فالأهم، بالنسبة إليها، أنها اختبار إبداعي لمحاورة الزمن والماضي والذاكرة.



المساهمون