"كلاب" بوغدان ميريكا: هدايات مشوّهة

"كلاب" بوغدان ميريكا: هدايات مشوّهة

04 يوليو 2016
لقطة من الفيلم
+ الخط -

لم تخطئ "الفيدراليّة الدوليّة لنقّاد السينما"، في بيان انتصارها لباكورة الروماني بوغدان ميريكا "كلاب"، بإعلانه "أفضل فيلم" عُرض في خانة "نظرة ما"، في الدورة الـ 69 (11 ـ 22 مايو/ أيار 2016) لمهرجان "كانّ"، ووصفها إياها بأنه "واعد"، بفضل "مهارة مزجه بين خطايا جريمة، وتقنيات نوع سينمائي غربي خاص، أمدّى (المزج) متفرّجه بنظرة معمّقة لتضاربات مجتمع روماني معاصر".

العوالم السوداوية التي تحيط بعودة البطل الشاب رومان (دراغوش بوكور) إلى بلدة نائية، تقع عند الحدود مع أوكرانيا، لبيع أرض ورثها عن جده، تتحوّل إلى علّة عصيّة، تصيب الجميع بـ "سعار" اجتماعي، يجد خلاصاته في جرائم قتل متتابعة، وتصفيات بدمّ بارد، وحقد أعمى لن يرحم حتى الحب، وبلطجة تخترق أماناً ريفياً محصّناً بطبيعة أخّاذة، وابتزازات مافياوية خؤوونة، تحطّ ضمائر وأعرافا وسجايا، وتبخس ما تبقى من نخوات قروية ضاربة بعراقتها.

يفتتح بوغدان ميريكا نصّه المتأني، الذي دعمت "مؤسّسة الدوحة للأفلام" القطرية عمليات استكماله بـ "منحة ما بعد الإنتاج"، بمشهدٍ تأويليٍّ لمّاح، تتحرّك فيه كاميرا مدير التصوير البارع أندريه بوتيك، في لقطة طويلة متألّقة ومتمهّلة، مُنجزة بتقنية "سينما سكوب"، عبر مراع خلاّبة، قبل وصولها إلى بحيرة تخرج وسط مياهها الهادئة فقاعات غريبة، مركّزة اهتمام متفرّجها على غموض وترقّب، حتى بروز عضو بشري مقطوع على سطحها.

هذا الإيذان البصري الصاعق والمبهم، الذي يجد مرجعيته الطوبوغرافية واقتداءاته بمفتتح شريط التركي نوري بيلجي جيلان "كان يا ما كان في الأناضول" (2011)، يقودنا مباشرة إلى بطل وافد وساذج ومعاند، يكايل سلطة متمثّلة برئيس الشرطة هوكاس (غورغي فيسو)، الذي ينصحه في حوار متضارب النوايا، بقوله له: "حين لا يكون أحدٌ حولك، يمكنك أن تفعل ما تشاء. لا أحد يراقبك هنا، حتى الشرطة. لا فائدة من بقائك في الجوار، وأنت تعيش مرعوباً". عندها، يحتجّ رومانن، فيردّ عليه: "مَنْ قال لك إني خائف"، فتأتيه الحكمة بعجالة: "إن كنتَ متبصِّراً، فلا تكن مغفلاً".

هذة الصفة الأخيرة، هي ما سيفوت على الشاب التحوّط من سقطاتها وقدرها الأسود، اللذين سيوقعانه في صراع ضروس وعبثي وماحق مع غريمه سمير (فالاد إيفانوف، الذي اشتهر بدور طبيب الإجهاض في فيلم كريستيان مونجيو "4 أشهر و3 أسابيع ويومان")، المُصرّ على أن فكرة عزمه على بيع الأرض، خيانة للأجداد/ العرّابين، وأعرافهم.

ذلك أنّ أيّ صفقة يجب أن تخضع لقبولٍ جماعي، من نافذيّ "عشيرة" تعيش عند تخوم عالم منسي، وتضمن حصصهم ومنافعهم، حيث السطوة لدى وحوشها تسبق الجبروت على الحقوق.

يرى بوغدان ميريكا (روائيّ، مواليد بوخارست، 1978، درس كتابة السيناريو في لندن) أن خيط الدمّ، الذي تجتمع شخصيات ثلاث متجانسة إلى حدّ مدهش على ارتكابه، دلالة كونية على طبيعة بشرية، تنتصر إلى غرابة أحكامها وهوجها وغرائزها ولا إنسانيتها. كائنات تؤسِّس سلطاناً مشوَّهاً لمشاعية عنف وتصفية حسابات، ضحاياها علاقات إنسانية، وصيانة حياة، وكفالة قانون.

كلّما التقى رومان شخصية ما، تتضح له حقيقة مُرّة، مفادها بأن المُلكية، التي ظنّ أنها جزء من كينونة عائلية كريمة، هي جاثوم، تمّ الحصول عليها بوسائل غير شرعية. فالجدّ الراحل لم يكن سوى لص، اغتصب الأرض بالترهيب. يصرخ حارسها في وجهه: "مَنْ قال لك إنه اشتراها؟". عليه، يصبح خيار رومان مؤلماً وفاجعياً، بين تمدينه وولائه لحجّة القانون، وهي هنا مجموعة أوراق مزوّرة للثبوتية، أو الانخراط في معركة وجود لوأد "مَغْانم" اللصوصية، وفضح زيف "حقوقها". هنا، تتحقّق هداية رئيس الشرطة العليل بالسرطان، الذي سمّى كلبه "بوليس"، في أن الموت ليس عقاب جسد فحسب، بل ـ مع حالة رومان ومساعيه و"نضاله"، طهارة أرض "لم يستطع حتى الشيوعيون فرض مزارعهم الجماعية فوقها"، بحس هوغاس، شهدت حفلات حرق جثث ودفنها، وسالت فوقها دماء بلا طائل.

في المقاطع الأخيرة من "كلاب"، يسرّع بوغدان ميريكا من تقسيم دراميات حكايته ومشهدياتها المهيبة (104 دقائق)، جغرافياً وشعورياً. ذلك أن بطله وعالمه يغرقان في سعير أرضيّ، تتأجّج فيه منافسة ضروس للإمساك بالسلطة، وفرض قانونها، يبقى رومان فيها سجين دارة جدّه المُسَوّرة بأسلاك شائكة، إشارة الى أولغارشية بائدة، لن يفلح في صون أطلالها. في وقتٍ يحاصره سمير وزمرته/ كلابه اللائذين بعتمةِ ليلٍ، مستقوين بأسلحتهم وثاراتهم وشّحنائهم، ملتفّين حول طرق زراعية بسيارات عملاقة وفاخرة، حوّلت جولاتهم المجنونة إلى ما يشبه مطاردات رعاة بقر أميركيين.

يبقى الفيصل مرتهن، كما تقرّره الحياة وناموسها، إلى شرعية رسمية، ممثلة برئيس شرطة، شهد مقتل كلبه الوفي، وأصرّ على هوسه في معرفة هوية ضحية القدم المقطوعة في مشهد البحيرة، ليأخذ بحيف الدولة وإرادتها، مردياً المجرم العصابي سمير، في مشهد مثير ببطئه وهدوئه وعقلانية تفاصيله، حيث صوّر بوغدان ميريكا مواجهتهما الدموية كخاتمة لعالم مجحف، وليس لـ "نَدّين". يأتي القصاص باعتباره قيمة اجتماعية ثابتة، أي إعادة الاعتبار إلى إنسانية تجمّع ريفي (كومونة)، كادت أوروبا الألفية الثالثة أن تنسى ملائكتها.

المساهمون