مهاجرون سيّئو الطالع

مهاجرون سيّئو الطالع

23 يوليو 2016
("زمن مكسور" رسم على الخيوط، منذر جوابرة/ فلسطين)
+ الخط -

ثمة مُتخيَّلٌ ما يسكن كل راغبٍ في الهجرة، عبر أحقاب التاريخ. لم يكن تاريخ هؤلاء على هذا الكوكب الأزرق الصغير بمعزلٍ عن المتخيَّلات في أيّ يوم.

ولعل التاريخ بهذا الخصوص يتكرّر حقاً في عيون راصديه، لا على طريقة ماركس الكلاسيكية فحسب، بل كتنويع وتحديث وتوسيع أبديّ لها أيضاً. فالتكرار هنا يشمل قطبَي المأساة والملهاة وما بينهما من مروحة ألوانٍ وتباينات دروبٍ ومصائر.

لكل مهاجر/ لاجىء متخيَّلُهُ ـ هذا مفروغ منه. وفي كل هجرة، فردية كانت أم جماعية، ثمة متخيَّل قارّ لا ينفكّ ـ وهذا مفروغ منه أيضاً. وعليه، ففي كل هجرة، أثناء حدوثها أو بعد الفروغ منها، ثمة ضرائب تصاعدية يفرضها المتخيَّلُ، وعلى المتخيِّلِ تسديد أقساطها، أولاً بأول، من البدء حتى المنتهى.

البدءُ حيث التسلل من بلد المنشأ ـ الوطن الأم ـ وعبور بلاد وقوميات وثقافات أخرى. والمنتهى حيث النجاة الفيزيقية والنفسية أو عكسهما، حسب كل رحلة وظروفها.

وما يحدث غالباً مع البشر الراغبين في الهجرة والمسكونين بورد أحلامها، أنهم يركّزون على متخيَّلهم الرّغبي، متجاهلين ضرائبه الباهظة، وبخاصة ضريبة الموت الشخصي كاحتمال وارد (كونها السقف الذي لا سقف بعده): هناك، حيث تنتهي الحياة الحاضنة والحاملة لتلك الأحلام. فإذا لم يكن ثمة حياة في الجسد، فأيّان وكيف نحلم؟

الجسد هو بيت أحلامنا، ومن لا بيت له لا حلم له.

إنّ مهاجري أزمنتنا الحديثة، قياساً بمهاجري الأزمنة الوسيطة والقديمة، سيئو الحظ والطالع بامتياز. فأيام أسلافنا كانت الحدود غير موجودة أصلاً، لا على الخارطة ولا على الأرض. وآنذاك لم يكن ثمة موانع ولا معسكرات ولا قوانين.

مهاجرو تلك الأزمنة البعيدة كانوا "بدو" الجغرافيا والتاريخ السعداء. يكفي أن يركبك هاجس الرحيل، وتتحصّل على زوّادة أول الطريق، حتى تشرع في التنفيذ، مهما يكن.

اليوم انقلب الوضع رأساً على عقب: نشطَ إمبرياليّو ومشرّعو مصالحهم العنصريون في "القلاع الحصينة" بسنّ القوانين والتشريعات العسكرية، بحيث يتعذّر أحياناً على الحيوان أن يعبر من جغرافياه إلى جغرافياهم.

ونظرة متأنية على ما يحدث على حدود أميركا ـ المكسيك، كما الضفة الجنوبية للمتوسط مع ضفته الشمالية... إلخ، تخبرنا بهول ما يدفع ثمنه الأميركيون اللاتينيون والمتوسطيون والأفارقة وسواهم.

ما يدمي القلب قبل العين في هذا الغبار الشاسع لدراما المصائر الإنسانية، أن لا أحد ينصت ولو بجزء من عقله لمتخيّلِهِ. ولربما يكون الإنصات في مثل تلك الجحيم التي هربوا منها، ترفاً يصعب الحصول عليه.

مع هذا، ليت مهاجري ولاجئي عصرنا (بما هم "بدو" ما قبل الحداثة وما بعدها) يتحقّقون من متخيّلهم عن الغرب، كأرض للذهب أو أرض للميعاد. فالأخير قلعة عسكرية واقعاً ومجازاً أمامهم. وإنّ من المتخيّل ما يرسو بصاحبه على برّ الأمان، ومنه ـ وكثيراً ما يحدث هذا ـ ما يقتل!

المساهمون