المجهِّزون العرب على أرض متحرّكة

المجهِّزون العرب على أرض متحرّكة

11 يوليو 2016
"لماذا" لـ بثينة علي/ سورية
+ الخط -

إلى اليوم، وبعد أكثر من خمسين عاماً على ظهور ما يُسمّى بالتجهيز الفنّي أو "الأنستوليشن" مع التجارب الطليعية لكل من كابرو، وجوزيف بويز، وأيف كلاين، كنوع جديد في الفنون، ما تزال العلاقة مع هذا الفن إشكاليةً، سواء من حيث التلقّي أو من حيث التصنيف.

لعلّ اعتبار التجهيز نوعاً فنّياً قائماً بذاته أمر غير دقيق؛ كونه يضمّ الكثير من الأشكال، ويعتمد وسائط عديدة، ويستوعب كلّ الفنون من نحت ورسم وتصوير فوتوغرافي وصوت وفيديو، وغيرها. كما أنه ليس بالضرورة أن يجمع كلّ هذه الفنون؛ فهناك تجهيزات فنية تعتمد على الصورة كعنصر أساسي أو وحيد، أو على الصوت، أو عليهما معاً. كما أن هناك تجهيزات تعتمد على النحت بشكل أساسي، أو على الفيديو. وقد يكون هذا الأمر أحد الأسباب الذي جعل تلقّيه إشكالياً، خصوصاً في البلاد العربية؛ حيث اعتاد المتلقّي على التصنيفات الدقيقة والتقليدية، وحيث يغيب التنظير لهذا الفن وتندر المراجع المترجمة التي تتناول فنون ما بعد الحداثة.

ينقسم الجمهور العربي في نظرته إلى فنون "ما بعد الحداثة"، بين رافض لها، بحجّة أنها تحمل كثيراً من الشطط وتبتعد عن "الأصالة" وتدمّر الذائقة الجمالية وتهدّد بزوال الفن، وبين متعصّب لها يرى فيها وافداً حديثاً من الغرب ينبغي التعامل معه بنوع من القداسة، حتى لو كانت الأعمال متواضعة فنّياً، وهي كثيرة بالمناسبة. نادراً ما نجد أراء معتدلة تضع هذا الفن في مكانه الطبيعي، كغيره من الفنون.

بدأ التجهيز الفني بالانتشار في البلاد العربية في وقت متأخّر نسبياً، وبإيقاعات مختلفة حسب ظروف وخصوصية كل بلد؛ إذ شهد تطوّراً وانتشاراً في كل من لبنان وفلسطين والمغرب، مع ظهور تجارب تُنتج وتعرض في المنطقة العربية والغرب، نذكر منها -على سبيل المثال- إميلي جاسر وتيسير البطنيجي وخليل رباح من فلسطين، ومنير الفاطمي ومحمد الباز وسعيد عفيفي من المغرب، وأكرم الزعتري وعلي شرّي ومنيرة الصلح من لبنان.

أمّا في سورية "المنغلقة" فترة التسعينيات، فلم يسجّل التجهيز حضوراً فعلياً باستثناء تجربة قدّمها التشكيلي أحمد معلا عام 1997 في "غاليري أتاسي"، في معرض حمل عنوان "تحية إلى سعد الله ونوس".

عمل لـ منى حاطومبداية الألفية الثالثة، كانت تجربة الفنانة بثينة علي الأبرز والأوضح في هذا المجال؛ حيث قدّمت مجموعة من المعارض؛ من بينها "الخيمة" و"وعود". كما أشرفت على عدّة ورشات عمل مع طلّاب "كلية الفنون الجميلة" في دمشق للتعريف بهذا الفن.

من التجارب الجديدة، معرض "ذاكرة نساء" للسينوغراف السورية الفلسطينية بيسان الشريف الذي أُقيم مؤخّراً في "فضاء الكونفليانس" في باريس، وهو تجهيز فنّي وثائقي يعتمد على الشهادة الشخصية المصوّرة كوسيط أساسي يوثّق لرحلات النزوح التراجيدية التي قامت بها مجموعة من النساء هرباً من الحرب في سورية.

اللافت، هنا، أن معظم التجارب العربية التي تندرج تحت مسمّى التجهيز الفني تدور في فلك الحرب وانعكاساتها على المجتمع. وهذا الأمر ليس غريباً على منطقة تشهد وضعاً غير مستقرّ.

ولعل تجربة الفلسطينة منى حاطوم، التي تعمل بشكل أساسي على فكرة الحرب، الأبرز والأشهر ضمن "المجهّزين" العرب. ولحاطوم، التي احتفل بها، السنة الماضية، "مركز بومبيدو" في باريس بمعرضٍ استعادي كبير، تجهيزات فنية عديدة منتشرة في متاحف العالم؛ من بينها: "حكم مخفّف" (1992)، وفيه نشاهد نسقين من خزائن/ أقفاص مصنوعة من الأسلاك المعدنية مكدّسة فوق بعضها ومتّصلة على شكل صندوق مفتوح.

عمل لـ منير فاطميفي المقابل، أعلى السقف، يتحرّك، بشكل أوتوماتيكي، مصباح معلّق بفعل محرّك كهربائي. تنعكس ظلال الصناديق في فضاء العرض لتخلق نوعاً من عدم الاستقرار والوحشة. في هذا العمل الكثير من الاستعارات؛ فالأقفاص تُحيل الى السجن وترتيبُ الصناديق يحيل إلى فضاء المدينة الضيق.

يقوم التجهيز الفني، بشكل أساسي، على مسرحة الفنون، خالقاً ظرفاً تفاعلياً مع المتلقّي يميزه عن باقي الفنون. وسواء كان العمل منجزاً من عناصر سريعة الزوال أو مصنوعاً من مواد ثابتة وذات ديمومة، وسواءً كان معروضاً داخل متحف أو في الهواء الطلق، وسواءً كان يتناول موضوعاً إنسانياً عامّاً أو يقدّم حالة فردية وحميمية، فإن التجهيز يبقى، كغيره من الفنون، فيه ما هو غثّ وما هو ثمين، ما هو قيّم وما هو أقل قيمة. الأمر متروكٌ في النهاية لحساسية المتلقّي وذائقته الجمالية.


المساهمون