رمضان الباريسي: مِن مَعاقل الفُصحى

رمضان الباريسي: مِن مَعاقل الفُصحى

19 يونيو 2016
تجاورات عمرانية حذو "جامع باريس"
+ الخط -

في باريس، يبدو شهر رمضانَ مَشهداً لُغوياً تتبدّى في ثناياه تفاعلاتٌ لِسانية تصلُ "عاصمةَ الأنوار" بِبادية العرب، فتنعقد بينَ لُغة موليير ولغة الضاد وشائجُ قُربى لا يَتَوَقَّعها أحدٌ.

ففي أيام هذا الشهر ولَياليه الباريسية، تتكثَّف العلاقات الإدْراكية بَين ذِهن الناطقين بالفرنسية وسِجلات الفُصحى، التي تزدهر في الخُطبِ والابتهالات وتلاوة القرآن، إما في فضاءات مفتوحة، مثل أروقة المساجد والجمعيات، أو في حقولٍ افتراضية تَمدّها القَنَوات وشبكات التواصل الاجتماعي، وهوَ ما يُمَثِّلُ استرجاعاً وتَمكيناً لِمَعْقلٍ من معاقل الفصحى الأثيرة في الفضاء الأوروبي.

ويَجري هذا التفاعلُ ضمن عَملية معرفية إدراكية يسترجعُ خلالَه المسلمون الناطقون بالعربية والناطقون بغيرها، عَشرات الجُمَل والصيغ الفصيحة، فتندمجَ في النسيج اليومي لنسق الحياة الباريسية، مثلَ عَناصرَ أثريَّة تُزَيِّنَ رَتابة يومياتهم المتسارعة بين القطارات والعمارات والأضواء.

وهكذا، يَهتزُّ المشهد الألسني المعتاد بفعل هذا الحضور المفاجئِ لنصوصٍ مَشهودٍ لِجزالتها، ضاربةٍ في قِدَمها، تُعايِش، بفضل الأثر السحري للتثاقف، أشياءَ الفَضاء الدلالي الحديث ومقولاته الذهنية والمادية.

ومن أمثلة ذلك ما يُبدعهُ خُطباء المنابر الفرنسية في تَرجمة هذا الحديث الشهير: "مَن صامَ رمضانَ إيماناً واحتساباً غُفِر له ما تقدّم مِن ذَنْبه"، رَغم صعوبة تَركيبه الجاري على استعمال المفعول لأجْلِه، وفيه ما فيه من الغموضِ والرُّواء، علاوةً على تَعقد معنى "الاحتِساب"، ومع ذلكَ يستحيل - بفعل الترجمة الخارق - كلاماً يبلغ آفاق أبناء الجيل الثاني والثالث من الهجرة ويهزّ منهم المشاعر والمدارك.

ومن جهة ثانية، نلاحظ شيوع الأفعال الإنجازية التي نَظَّر لها الألسني الإنجليزي جون أوستين (1911-1960)، وهي أفعالٌ قولية تتركز على التهاني والتبريكات والأماني بهذا الشهر، تَنْضاف إليها الجُمَلُ الإشهارية التأثيرية التي تصوغها كُبريات شركات التوزيع، مثل "كارفور"، وهوَ ما يُنَشِّط الاقتراض والتَوليد والتلاقح المعجمي، وأشهر الأمثلة على ذلكَ شيوع فعل التهنئة في عِبارة: "رَمضان كريم" لدى عامة الفرنسيين، فإما ينطقونها بالعَربيَّة، مجاملةً لِمُحادِثيهم، أو مُترجَمَةً بصيغة Bon Ramadan.

وتجدرُ الإشارةُ إلى أنَّ الجملة مُغرقة في فَصاحتها، رَغمَ إيجازها، فهي جملة دُعائيَّة، فِعلها محذوف، يقدَّرُ بِفعلٍ إنشائيٍّ مثل: أتَمَنَّى، أو أرجو... واللافت أيضاً أنَّ الترجمة الفرنسية بـbon أخذت بعين الاعتبار المعنى المَجازي لنعتِ "كريم"، ذي الدلالات المتعددة.

ونلاحظ من جِهة ثالثة شيوع مصطلح Iftar وليس هو سوى فَرْنَسة للكلمة العربية "إفطار"، منقولةً صوتيّاً للدلالة على موائد الرَّحمن (التقليد الإسلامي الذي كانَ سائداً في العديد من المُدن الإسلامية خلالَ القرون الوسطى)، موائدُ تُنَظِّمها الجمعيات والمساجد داعيةً إليها كُبَراءَ الساسة والوزراء والعُمد الفرنسيين، وسائرَ الأصدقاء والزملاء من غير المسلمين. ومع أنَّ الكلمة لم تُلْحَق بعدُ بالمعجم الفرنسي "لو روبار"، فإنها كثيرة الورود في محاورَات الفرنسيين ونَواديهم.

وهكذا تتفاعلُ، في صائِفة رَمضان الباريسية هذه، بنى لغات مُتباعدةٍ أصولها، وتتحاورُ سجِلّاتها وآلياتها، عاكسةً صورَةً دقيقة عن حركية تثاقفية اجتماعية - سياسية، يَسعى عبرها مسلمو فرنسا إلى المزاوجة بين قيمهم وشعائرهم وفضاءاتِهم الرمزية - الدلالية، وبَين القيم الجمهورية الفرنسية التي تَحتمي وراء النظام العلماني العتيد، وأجمل شُقوق صرح العلمانية مفردة "رمضان"، التي ذَكر أئمة اللغة عنها أنَّها مشتقة من رَمَضِ الصحراء أيْ: شدة حرارتها.

المساهمون