"مؤتمر التداولية": العربية في يومياتها

"مؤتمر التداولية": العربية في يومياتها

26 مايو 2016
يزيد خلوفي/ الجزائر
+ الخط -

انعقد مؤخراً في "الجامعة اللبنانية" في بيروت مؤتمر عالمي خُصِّص للبحث في قَضايا التداولية العربية (Pragmatique) من خلال تَدريس مادَّتَيْ الترجمة واللغة العربية، ولا سيما لغير الناطقين بها.

ناقش أكثرُ من عشرين متدخلاً جاؤوا من كندا وبلجيكا وفرنسا ومصر والمغرب وتونس ولبنان البُعد التداولي في تدريس العربية والترجمة منها وإليها، من خلال دراسة أفعال الكلام، والوظائف التواصلية والملفوظات الإنجازية في علاقاتها جميعاً بسياقات الكلام والمُستعمِلين.

وبالعودة إلى أعمال إميل بنفنيست (1902-1974) الذي أدمج مفهوم التداولية في كتابه "مَشاكل الألسُنيَّة العامة" وبنى نظريةً في التواصلية تربط بين الملفوظ والمستعمِل، وإلى أعمال جون أوستين (1911-1960)، الذي جَعل من الفعل الكلامي فِعلاً إنجازيّاً خاصّاً، يتحوَّل فيه القول فعلاً من خلال عملية التلفظ داخل سياق تواصليٍّ ما؛ أبرزَ المُحاضرون في الجَلسات العشر للمؤتمر أهمية الكفاية التداولية وأوليَّةِ مقولاتها.

كما لفتوا إلى صعوبات تطبيق مقولاتها على اللغة العربية مِؤكدينَ أنَّه من بين أولويات تدريس العربية في المستوى الجامعي تَحديد أفضل لهذه الكفاية لاقتراح بيداغوجية متكاملة تَتلمَّس الصعوبات وتحترز من الفِخاخ المرتبطة بإنجاز الأفعال اللغوية، لا سيما وأنَّ شرحَ هذه الأفعال الإنجازية وتلقّيها يَتِمَّان عبر وسيط لغوي مُختلفٍ عن العربية.

توسّع المشاركون بشكلٍ خاصٍ في تحليل قضايا الازدواجيَّة أو التعدّدية اللغوية التي تميّزُ العَربيَّة (Polyglossie)، وهي سمةٌ ألسنية تَنتُج عنها سلسلة من الصعوبات في عملية الترجمة والنقل. ذلكَ أنَّ الترجمة نحوَ اللغة العربية تَفتَرض وجود جمهورٍ عام يَمتلك نفس الكفايات اللغوية في الفهم والتعبير، وهذا الشرط غَير متحقق بالضرورة في الواقع.

فَإن كان استعمال الفُصحى لا يمثل صعوبات جَمَّة لدى المتلقي أو المرسِل، فَليس الأمر كذلك بالنسبة إلى الدارجة عندما تُستعمل في بعض النصوص ويرادُ ترجمتها، كما أنَّ ازدواجية اللغة قد تتسعُ نحو التعدديَّة، بالإضافة إلى اختلافات اللهجات المستعملة في مختلف المناطق العربية.

وقد دارت أعمال المؤتمر حول محورين أساسيين، الأول: ازدواجية اللغة وتعدديتها؛ سؤالٌ محيرٌ وَضعَ المشاركين أمام مفارقةٍ كبيرة: أيَّ سجلٍ عربيٍّ نُدَرِّس؟ وأيَّ تَرجمة نختار؟ فمن المعلوم أنَّ أغلبية أفعال الكلام اليومية تجري من خلال السجلِّ الدارج (وإلا فَإنها سَتَفشل).

ومن جهة ثانية، لا تنجزُ بعض أفعال الكلام الرسمية إلا من خلال السجل الفصيح أو الأدبي. وأما الخطابات التي تَمزج ما بين هَذين السِّجِلَّيْن فإنها تتوافر على نمط اشتغالٍ مختلف، وتستحق أن تُحَلَّل بشكلٍ معمّقٍ، خصوصاً الخطابات السياسية والإنتاج الإعلامي والديبلوماسي والخطب الدينية.

وانصبّت الأبحاث ثانياً على المضمون البيداغوجي الذي يجب تلقينهُ، فسواءٌ تَعلّق الأمر بالعربية كلغة أجنبية، أو باللغة المُدَرَّسَة الى الناطقين بالعربية، أو بالترجمة نحو العربية، تَساءل المشاركون عن طَبيعة المَلفوظات التي تُدرس أو تتَرجم.

فعلى سبيل المثال: ما هي الجدوى من تَدريس المفردات الأدبية- الفصيحة الخاصة بِفَتح حسابٍ بَنكي، والحال أنَّ هذه العملية تُنجز في الواقع من خلال العبارات الدارجة أو من خلال مفردات لغة أجنبية؟ ثمَّ ما فائدة أن نترجم للطلبة السجل الشفوي الذي يظهر في سياق لغوي-معياري، من خلال استعمال الفصحى، في حين أن الأثر الإنشائي يَظل رهين البعد الشفوي؟

واستقت الأعمالُ المقدّمة نتائجها من ثلاثة مجالاتٍ أساسية في أفعال القول، حَلَّلت مضامينَها وصعوباتها؛ أوّلها هي أفعال القول التي تنتمي إلى المجال الرسمي التي تَتَجلى من خلال التصريحات والبيانات والوثائق الرسمية. وبِقَطع النظر عن طبيعة هذا الإنتاج الكلامي اللسانية، فإنَّه يؤدّي وظيفةً سياسية تُغَيِّر الواقع، بمعنى أنَّه يؤثِّر فيه وفي التمثّلات التي نمتلكها عَنه.

ثانياً، جرى التطرّق إلى أفعال القول المنجزة داخل سياق غير رسمي فَثَمَّة الكثير من المَهام التواصلية التي ينجزها المتحدّثون، مثل صيغ التحية والاعتذارات والشكر والسؤال عن الأحوال وغيرها. ولهذه الأفعال آثار على مسار الترجمة، سواءَ تعلق الأمر بالترجمة الآلية، أو بالدبلجة أو الإشهار أو الترجمة الأدبية.

ثالث أشكال أفعال القول التي تمّت دراستها تلك المتعلقة بالمجال القانوني المتصلة بالعمل القضائي وتشمل الكثير من الملفوظات التي تؤدّي وظيفة ذاتَ طابع قانوني (مثل صوغ المناشير والأحكام والتصاريح، والنطق بالأحكام).

وقد أشار البعض إلى أنَّ دراسة هذه المسائل قد تساهم في تطوير أنثروبولوجيا مناسبة لأفعال الكلام العربية، حَيثُ يؤثّر هذا النوع من الخطابات، ضمن أنثروبولوجيا تواصلية، في جملة الرموز والمواضعات والقيود الثقافية المنبثقة عن العالم العربي، في تنوّعه الثري.

المساهمون