يعسوب في القصيدة

يعسوب في القصيدة

27 فبراير 2016
سلمان عبّاس/ القسم الثقافي
+ الخط -

بعض الشعرِ لا يُشعركَ أنك تقف أمام عتبة عليك اجتيازها، أو أمام ظلالٍ تسعى إلى أن تكون شيئا ملموساً، أي أن "تتمثّل" في شيء محدّد. مثل هذا الشعر قد ترى نفسكَ معه في زنزانة إسمنتية رطبة بلا نوافذ، ثقيل كل ما تراه وتحاول لمسه. لا شيء خلف العتمة والرطوبة والجدران، سوى العتمة والرطوبة والجدران.

بعض الشعر يحيطكَ برفيف كلماتٍ على الورق، ولا شيء غير الورق وصوته. وسيبدو نوع الورق مهما كان، ناعماً أو صقيلاً، صفيقاً مثلما هو صفيقٌ لون غيمة بلا مطر، أو بستان بلا شجر، أو منعطف إلى صحراء.

إنه كلماتٌ تُقال وتتطاير في كل اتجاه، تفتقر إلى العبق الذي يتأرّج بين سطور شاعر، واتساع الليل ووحول الطرقات ورائحة النرجس والشتاء البعيد في قصيدة تدل على وطن، وكوامن يمكن أن تكون شيئاً ملموساً مما يتذكّر الإنسان، أو مما يتخيّل.

هذه مسألة تبدو مسألة تقانة فنية.

نعم.. هي مسألة تقانة فنية، من دونها يتساقط الكلام ورقاً لا فراشات حقل، ويغدو مثلاً أو حكمة، أو حيلاً لفظية تشبه قفَزات بهلوان مثيرة، لا إحساس شاعر.

ولكن، لئن كانت خيارات الشعراء وحساسية بعض القرّاء تنقلك إلى مشهدٍ جمالي يعبق بقوّة الحياة، ويبثّ فيك وفي ما حولك ذكرى حياة منسية، أو حياة مقبلة، فإن هناك خياراتٍ أخرى لشعراء أيضاً تنقلكَ إلى مشهد له "جمالياته" الخاصة؛ مشهد غبار يثور وصوت صليل سيوف أو تكسّر رماح، صنو ذلك المشهد الذي لا تخلو منه أبيات المتنبي مثلاً، أو أبيات المعرّي الذي يحاكيه في "سقط الزند"، ومن تابعهما حتى بوابة القرن الماضي، وما زال يحتشد بذلك الصخب وكائناته حتى هذه اللحظة.

في مشهد مثل هذا إحساسٌ قوي بالحياة أيضاً، ولكنها الحياة المكرّسة للعنف والقتل. إنها أغنية من نوع مختلف يحذّر منها شاعر ناسك مثل الياباني ماتسو باشو تلميذَه، فيشدّد على أن قتل اليعسوب في قصيدة ليس شعراً، الشعرُ بتعبيره، هو أن تمنح اليعسوب نسمة حياة. فما بالك بالشعر الذي يحتفي بقتل الإنسان؟

أتذكّر أن ناقداً مغرماً بعلم الدلالة رأى جمالاً لا نظير له في تشبيه تل ينثر عليه صاحب سطوة رؤوس جمع من الناس بفستان عروس تتناثر عليه الدراهم. كنت أحدّثه عن تنافر في هذا التشبيه الذي لا يستقيم، فنياً وإنسانياً، وكان يدافع عن صورة من ورق.

هنا ننتقل إلى الموقف.

فبعد أن يتخطّى القارئ العتبة، وتتوارد على ذهنه مئات بل وآلاف الاحتمالات، ويمثل أمام ذهنه الممكن الذي لا بدّ أن يتمثّل في نهاية المطاف، سيجد نفسه بين خيارين؛ فإما أن يكون إلى جانب جماليات تجعل الأبيات تختنق برائحة الدماء وأنين القتلى والرؤوس المقطوعة، أو أن يكون إلى جانب جماليات تعبق أبياتها بالحياة النقية نقاء حديقة غسل أشجارها المطر تحت ضوء يبزغ رقيقاً من وراء السحب.


اقرأ أيضاً: حتى الثقوب التي نطلُّ منها

المساهمون