نذير نبعة.. في غياب صاحب التجليات الدمشقية

نذير نبعة.. في غياب صاحب التجليات الدمشقية

24 فبراير 2016
"المنحدر"، أكريليك على قماش، 145 × 130 سم (2003)
+ الخط -

لوحات الفنان نذير نبعة (1938 - 2016) هي تصوّر عن المكان بصيغة تعبيرية حالمة، هي جرعة مكثّفة من الجمال. ليست المهارة التقنية أو الدقة أو البلاغة في الرسم هي ما يشدّنا في لوحته وحسب، وإنما تلك الحالة السحرية التي تعكسها نظرات عازفة الناي المحلقة، وحضور الورود والرمّان؛ كأنّنا نفتح الباب أمام صورة متخيّلة لدمشق التي نحب.

لا يمكن العبور على المشهد التشكيلي السوري، بل والعربي، من دون التوقّف والتأمّل طويلاً في تجربة نبعة الذي غادرنا أوّل من أمس في دمشق؛ حيث اجتمعت عائلته وأحبته ومن تبقّى من تشكيليين سوريين هناك، ليلقوا تحية الوداع عليه، قبل أن يُوارى الثرى في تربة المزّة، مسقط رأسه.

في بساتين المزة الريفية، قبل أن يبتلعها الإسمنت وتتحوّل تدريجياً إلى منطقة سكنية معاصرة، نشأ الفنان وكبر في أسرة بسيطة؛ أبٌ يشتغل في الفلاحة ومهن صغيرة أخرى، وأمّ تعمل في التطريز في بيت طيني. هكذا، انفتح وعي نبعة على جمال الطبيعة باكراً، وتعرّف إلى مفرداتها، كالورد والرمّان والتفاح والصدف، لتصبح عناصر أساسية في لوحاته لاحقاً.

كان يرسم، مساعداً والدته، رسومات وموتيفات نباتية على الفساتين التي كانت تحيكها لنساء الحي. كان الأمر يبدو ممتعاً للفتى نذير. لم يعلم وقتها أنه سيحترف الفن في ما بعد، ويصبح واحداً من أبرز التشكيليين في الوطن العربي.

نستطيع القول إن بداية دخوله عالم اللوحة تعود إلى فترة دراسته في ثانوية التجهيز الأولى في دمشق؛ حيث كان الفنان ناظم الجعفري، أحد رواد الفن التشكيلي في سورية، أستاذاً لمادة التربية الفنية.

جهّز الجعفري، الذي عرف عنه صرامته وتفانيه في عمله كفنان ومدرّس، في الثانوية محترفاً نموذجياً لتعليم الرسم. تعرّف الفنان الشاب في هذا المكان إلى تقنيات الرسم بالألوان المائية، كما تعلّم تقنيات اللوحة من مزج اللون وتأسيس القماش، إضافة إلى تقنيات الفحم: "كان الجعفري كريماً جداً، لكنه كان بالمقابل صارماً وجدياً، وهذا ما علّمني الفن واحترام أصول العمل الفني، بأن نكون جديين في تعلمنا". يقول عن علاقته مع الجعفري في إحدى المقابلات.

بعد حصوله على منحة لدراسة الفن مطلع الستينيات، سيغادر نبعة دمشق متجهاً إلى القاهرة، ليبدأ مرحلة الاحتراف. هناك، في كلية الفنون الجميلة، تعرّف إلى أساليب ومدارس الفن الحديثة، على يد أساتذة بارزين، مثل حامد ندى وعبد العزيز درويش وحسين بيكار. وعلى الرغم من توسّع رؤية الفنان وتطوّر أدواته، إلا أنه بقي مخلصاً لما هو محلي.

كان هاجس الهوية، في تلك الفترة، هو ما دفعه إلى البحث عن مواضيعه؛ فرسم، عناوين بسيطة تعكس الواقع الاجتماعي والسياسي، كموضوع "المقالع"، مشروع تخرجه. هذا على مستوى الموضوعة، أما بالنسبة إلى الشكل والأسلوب، فلجأ نبعة، في الستينيات، إلى تراث الحضارات القديمة في المنطقة، كالفينيقية والسومرية والآشورية والفرعونية، فنلاحظ أن التشخيص الموجود في لوحات تلك المرحلة، يتأثّر، بشكلٍ أو بآخر، بالنقوش النافرة السومرية والتدمرية؛ حيث يعتبر الفنان أن مرجعياتنا بالرسم تعود إلى تلك الفترات من تاريخ الأجداد.

بعد عودته إلى سورية عام 1965، سيُكلَّف نبعة بتدريس الرسم في مدارس دير الزور. كان الفنان يملك الوقت الكافي لاكتشاف ثقافة المكان الغنية والممتدة عبر التاريخ، إضافة إلى التأمّل في جماليات الجغرافيا من البادية الصحراوية الملونة حتى نهر الفرات الساحر؛ لذلك لم يكن عبثاً أن يكون معرضه الأول في صالة الفن المعاصر في دمشق عام 1965، مكرّساً في أغلبه حول الأسطورة والبيئة الفراتية، كما في لوحة "كاهنة مردوخ" أو "العجاج".

 سيسافر الفنان بداية السبعينيات إلى فرنسا ليكمل دراسته الأكاديمية في "المدرسة الوطنية العليا للفنون الجميلة" في باريس. لقد شكّلت باريس، كما القاهرة سابقاً، مرحلة مهمة في مسيرة نبعة الفنية، ليس لأنها عرّفته أكثر على مفهوم المعاصرة في الفن وحسب، بل لأنها جعلته يعي أكثر "محلّيته" وفرادة موضعته الشخصية المرتبطة بإرث أجداده، كما أتاحت له الفرصة أن يتعمّق في مفهوم الصوفية التي انعكست لاحقاً في أعماله، كمجموعة "التجليات"، حيث تنحسر الحكاية والتشخيص، ويطغى التجريد، أو "التنزيه" كما يحب نبعة أن يسميه؛ كونه، بحسب الفنان، أقرب إلى قاموسنا، كما يختلف عن كلمة التجريد بمعناها الرائج.

وعلى الرغم من تنوّع الأساليب في تجربة نبعة الفنية، تبقى ثيمة المرأة هي الأكثر تعبيراً عن تجربة الفنان الممتدّة لأكثر من 60 عاماً. المرأة المتخيلة القادمة من الحلم والأسطورة، المرأة المدينة التي ترمز لدمشق:

"إن حضور النساء الحالمات وملامح الحزن المكتوم وغلالات الغموض والحكايات المهموسة والأماكن الرومانسية المغلقة لدى نبعة، إضافة إلى سيطرته التقنية وقدرته على جمع النقائض في بوتقة واحدة، كوّنت للوحته مكانها الفريد في تاريخ التصوير السوري". يقول التشكيلي السوري يوسف عبدلكي، واصفاً تجربة الراحل من كتاب "نذير نبعة: عين على العالم.. عين على الروح".


_________________
اللوحة لفلسطين أيضاً
بعد النكسة توجه نذير نبعة أكثر نحو المواضيع الملتزمة. في تلك الفترة أنجز لوحات عن النابالم الذي استخدمته "إسرائيل" في فلسطين المحتلة وقبلها أميركا في فيتنام. ولم يكن تضامنه مع القضية الفلسطينية مجرد حالة تعاطف عابرة فرضتها هزيمة 1967؛ فالفنان الذي انتسب إلى صفوف حركة "فتح" لم ينقطع عن رسم الملصقات السياسية التي تعبر عن النضال الفلسطيني وتكرّم الشهداء والفدائيين.



اقرأ أيضاً: الجسد العاري: للرقابة وجوه كثيرة

دلالات

المساهمون