ليوبولْدو كاستِيّا: هذا أنا وهذه سيرتي

ليوبولْدو كاستِيّا: هذا أنا وهذه سيرتي

16 فبراير 2016
(ليوبولْدو كاستِيّا)
+ الخط -

بعفوية استهل الشاعر الأرجنتيني ليوبولْدو كاستِيّا حديثَه مع "العربي الجديد" قائلاً: أنا إنسانٌ محظوظ حقاً، لقد وهبتني الحياة فوق ما يُمكن أن أتصوَّره؛ ويكفيني أني ولدتُ في بيت يسْكُنه الشِّعْر حقيقة ومجازاً، فجنباته كانت تغص بالدواوين، وكان الشعراء والكُتّاب والمثقفون عموماً يفِدون إليه وعليه، فكان الشعر يتردَّدُ أصداءً وأصواتاً بين أركانه، ويُتنفَّسُ في كل لحظة ودقيقة، وسبَبُ كلِّ هذا أنَّ أبي كان شاعراً، ومن ثمَّ كان هذا الاحتفاء بالشعر يومياً في ذلك البيت.

أبي هو مانويل خوسي كاستيّا، ومن حياته استقطرتُ الشِّعرَ قبل كلماته، في بيت أبي تعلَّمتُ كل ما أعرفه وما تعلَّمته لاحقاً، وأغنيْتُ معرفتي بالشعر من أصدقائي الشعراء، ومن قراءة الشعر العالمي، وبالطبع من الطرق التي أجوبُها خلال أسفاري الدائمة والتي لا نهاية لها.

بعد ذلك عشتُ مرحلة شباب حامية وجامحة، اصطبغتْ بالحياة الصاخبة في الليالي المتوهّجة بالمغامرة والتعلّم الأبدي للشعر غايةَ اليوم، وأنا ممتن للحياة بما كانت تقودني إليه عبر طرق العالم النّيرة، والطرق السِّريّة العميقة والكئيبة أيضاً، والتي كانت دوماً تفاجئني، في الأخير، بكونها طريقاً واحداً.

لما كان عمري ثمانية وعشرين عاماً كُنْتُ قد جُبْتُ كلَّ أميركا اللاتينية برفقة أخي غابرييل. وقتَها، قادني الانقلاب العسكري بالأرجنتين إلى المنفى، ومع مرور الزمن، منذ ذلك التاريخ وإلى اليوم، شرعتُ أُصْدِرُ كُتُبًا غدتْ، إلى حد ما، تتجمَّعُ في خطوط يُمكن أن تُتَبيَّنَ في عملي، بعضُها سعتْ إلى أنْ تعثرَ على فيزياءِ واقع خبيء، وأخرى كانت كتباً حميمة يطبَعُها الإشهاد والشهادة، وهناك كتب طَبَعَها طموحٌ بسيط، وحاولتْ وهي لا تزال تُحاول أن تتحدَّث عن العجائب والأحزان التي رأيتُ في العالم.

لا أعرف ما يكون الشعر، لكني أعرف أنه يدعم أمل الإنسان والطبيعة والكون لأجل الاستمرار. وهو أيضاً الدرجة العليا للهوية الكليّة التي لكل ما هو موجود.

أعيش الشعر مستسلماً له ومطيعاً إياه ومفتتناً به؛ فأنا لا أكتفي بأن أخصص له ساعات من الحياة أكتُبه فيها، وإنما أسعى في بحث حثيث عنه، وبالطبع، أتَحَرَّى أن ألتزم - في مسعاي هذا - بالتواضع ومعرفة أنني أتعلَّم دوماً. وتعوَّدْتُ أنْ يقودني هذا المعيش اليومي مع القصيدة عَبْرَ طرق عديدة إلى قصيدة جديدة. أعرف أنَّ الشعر يرعاني بعنايته، ويسمح لي بذلك. لكنني لا أنسى أن أذكِّرَ نفسي؛ بأنَّ من الأشياء العجيبة التي يتوافر عليها الشعر أنه درس بليغ في عدم الطاعة أمام كل أشكال السلطة وتجلِّياتها المتنوعة مهما كان نوعها.

لا يزال الشِّعر قويًّا في العالَم، وهو يتطوَّر باستمرار، لكنّه يعْرِف ضَعفاً في الانتشار أو بالأحْرى قلَّةً في الذيوعِ، ولعلَّ السببَ يُرَدُّ إلى التشويش الذي تسبَّبتْ فيه استراتيجية السوق ومناهج التدريس.

تمتلك الأرجنتين حالياً، مثلما كانت دوْماً، شعراءَ كباراً، لكنَّ أسماءَهم وأشعارَهم لم يُعرَّف بها بعد في الخارج، وأعتقد أنه ينقص تضفير وتشبيك العوالم الشعرية للشرق والغرب بتوسيع فضاءات التمثّل والإدراك التي تعرضُها علينا الثقافات الأخرى.

لم يؤمن جيلي بقتْل الأب، ولم يُقِرّ من يدعون إلى ذلك، لهذا كانت هنالك له علاقة زمالة وصداقة مع الأجيال السابقة، وكان يُثمّن عطاءَها، لكنّ هذا الجيل -أي جيلي- حُرِمَ من أنْ تكون له صلة مماثلة بالأجيال التي تلته، ولم يكن ذلك فِعلاً إرادياً، بل كانَ قَدَراً فرضَه مجيء الديكتاتورية، التي قَطَعتِ العلاقة بيننا وبين الأجيال التي تلتْنا، لأن طبقة كبيرة من المثقفين أجهز عليها العسكر بالقتل، وأخُرى هجَّرَها أو اضْطُرَّتْ إلى أنْ تهاجر، فانقطعت الصلة بين الأجيال.

لقد كان في الأرجنتين شعراء كبار، فبعد جيل بورخيس، جاءت أجيال أخرى مثل جيل الأربعين الذي برز من بينهم شُعراء متميِّزون، مثل: إِنْرِيكِي مُولِينَا، وأُولْغَا أُورُوثْكُو، ولِيُوبُولْدُو مَارِْشَالْ، ومن جيلي لِيُونَارْدُو مَارْتِينِيثْ، ورَفَائِيلْ أُوطِرينْيو، وخُولْيُو سَالْغَادُو، ومَارْكُو سِيلْبِيرْ، وخُورْخِي لِيُونِيدَاسْ إِسْكُودِيرُوـ وتِيرِزَا لِيُونَارْدي، وخَاكُوبُو رِيخِينْ، وسَانْتِيَاغُو سِيلْفِطتري، ومِنْ الشُّعراء الشَّباب هناك كثيرون وهم جيدون، خاصة الشواعر.

عشت 21 سنة في المهجر، وفي إسبانيا تحديداً، التي أحمل جنسيتها؛ ثمانية أعوامٍ منها تُحسَبُ على الحُكم الديكتاتوري. وجعلتني إقامتي في إسبانيا أقيم أسرة هناك، الشيء الذي صعَّبَ عليَّ العودةَ إلى الأرجنتين. ويؤكِّد قولي ما يذهبُ إليه بعضُهم في قولهم إنّه "لا عودةَ من المنفى أبداً". لكنني عُدتُ، والمرء عندما يعود، بعد مدة مثل التي قضيْتُ خارج الوطن، يَجِد الذاكرة مشلولة، مما يُصعِّب اندماجه مجدَّداً.

لي في السرد تجارب حصلتْ على التقدير والاعتراف، وهي كتابةٌ كنتُ أغطي بها الفترات التي كان يتعذَّر فيها عليَّ أن أكتب شعراً. وتتمثَّل هذه التجربة إبداعياً في رواية ومجموعة قصصية، وبعض القصص المبثوثة هنا وهناك، وهناك، أيضاً، الدراسات النقدية التي أصدْرتُها في مجلّدات ومجلات، وآمل أن أجمعها في كتاب.

أعتقد أن الشعر ارتحال دائب، وأن الشاعر يسافر بالعينين نفسيهما اللتين تسافر بهما روحُه حين يكون جالساً ومستقراً. وأتصوَّرُه بالأحرى رحلةَ قنص، بل إني أرى أنَّ السَّفر يُستعمَل لإغناء هذا البحث. لديّ دزينة دواوين شعرية ألِّفتْ عن العالَمِ برمته، وقد انتهيتُ قبل أيامٍ قليلة، ودون وعي من كتابٍ عن الكون. وبوسْعِ قارئ كُتُبي أنْ يتأكَّد من أني أسعى في كتاباتي عن رحلاتي إلى الاعتراف بثقافات العالَم، وأني أندِّدُ بالضرر الذي يُلحقه بالعالَم الأقوياءُ والإمبراطورياتُ بمدافِعِ التدمير والبؤس.

كنت أمضي إلى بوادي آسيا وأفريقيا، وكنتُ أحمل معي عرائس القصب لتسلية أطفال تلك البلاد، وهكذا فُتِحتْ لي أبواب كثير من البلدان، وتعرَّفت على أشياء لم تكن لتخطر على بالي. كنتُ أصِلُ إلى بلدان وإلى قرى كانتْ ترتاب في الغرباء، وتتصوَّر عنهم أنهم أصل كثير من الفظاعات، لكني كنتُ أحظى لدى أبنائها بالضيافة اللائقة والكريمة، لأنهم كانوا يكتشفون فيَّ أني لم أحضر لأستغلَّهم وأخدَعهم، وإنما لأسلِّيَهم فقط، فكانوا يُعرِّفونني على خبايا لديهم، لا يمكن لأيٍّ كان أنْ يطَّلع عليها.

هذا أنا وهذه سيرتي.


________________
الديكتاتورية والترحال
وُلِد لِيُوبولدو كاسْتِيَّا عام 1946، في سالْتا الأرجنتينية، وعَرَفَ المنفى ابتداء من 1976، حين كان شاباً في الثلاثين، بعد أنْ لاحقته الديكتاتورية العسكرية. نشر أكثر من عشرين ديواناً شعريّاً، إلى جانب كتابات في الرواية والقصة القصيرة والنقد، وحاز جوائز عديدة آخرها الجائزة الدولية فيكتور فاليرا في فينيزويلا، ويعتبر اليوم من الأصوات البارزة في المشهد الأدبي الأرجنتيني المعاصر.



اقرأ أيضاً: راؤول سوريتا: لِمَ يعانقونني في الأمسيات؟

المساهمون