كتابٌ منتحل وتراثٌ مضيّع

كتابٌ منتحل وتراثٌ مضيّع

29 ديسمبر 2016
(صورة للقدس في مطلع القرن العشرين)
+ الخط -

بعد مرور ربع قرن على صدور كتاب المفكّر الفلسطيني بندلي الجوزي (1871-1942)، المُعنون بـ"من الحركات الفكرية في الإسلام"، وبعد مرور أحد عشر عاماً على رحيله في باكو الأذربيجانية، أصدرت "دار القلم للطباعة والنشر" في بيروت الكتاب ذاته في العام 1953، ولكن مع تغيير بسيط في العنوان ليصبح "بعض الحركات الفكرية في الإسلام"، ونسبت تأليف الكتاب لمن يُدعى مصطفى الحاج.

وقد تلازم اسم الكتاب ومنتحله الحاج في ذاكرتي بسبب التعليق الذي كشف هذا الانتحال للكاتب الفلسطيني نجاتي صدقي (1905-1980)، في مجلة "الآداب" البيروتية (المجلد الأول، عدد 3، صفحة 97، 1953)، والتعقيب الذي نشرته "الآداب" في العدد اللاحق (صفحة 55)، للكاتب محسن جمال الدين، الذي أكد من جانبه حادثة الانتحال.

كل هذا لم يكن موثقاً على هذه الشاكلة في ذهني، إلا أنني خلال إعدادي لمقالة عن كتاب الجوزي الآنف الذكر في الأيام القليلة الماضية، أحببت أن أستوثق من حقيقة انتحال كتابه، فبحثت في أرشيف "الآداب" البيروتية ووقعت على تعليق صدقي، وتعقيب جمال الدين، ووقعتُ على أمور إضافية مثيرة للدهشة، ليس لأنها تعزّز ما كتباه قبل 63 عاماً عن الانتحال فقط، بل لأن الكتاب المنتحل وعليه اسم المنتحل نفسه ودار النشر نفسها يتصدّر في الوقت الراهن موقعاً إلكترونياً يحمل اسم "مكتبة نون"، وتحتفظ بنسخة منه "دار الكتب والوثائق الوطنية" في العراق، وكذلك "مركز جمعة الماجد للثقافة والتراث" في الإمارات، و"كلية دار العلوم" في القاهرة، وأكاديميات ومؤسسات ومكتبات أخرى على الأرجح!

قرأتُ هذا الكتاب، واكتشفتُ أنه بالفعل منقول حرفياً عن كتاب الجوزي، مع إضافة عنوان فرعي لا وجود له في الأصل هو "ظهور محمد"، وتغيير طفيف في عناوين الفصول، مثل استبدال "الحكومات العربية والأمم المغلوبة" بـ"الإمبراطورية العربية والأمم المغلوبة"، و"الإسماعيلية" بـ"الحركات الإسماعيلية"، وإضافة عنوان فرعي غير أصلي باسم "إخوان الصفا" في الخاتمة، مع اختفاء كل مراجع الكتاب الأصلي.

المدهش أكثر، ليس أن الأوساط الثقافية لم تلتفت إلى انتحال كتاب في غاية الأهمية، لرائد من روّاد البحث على أساس منهج مادي/ تاريخي، وناقدٍ للاستشراق على أسس علمية، ولا أن مكتبات أكاديمية ومراكز بحث تحتفظ به تحت اسم منتحِله، بل لأن أحداً لم يلتفت إلى هذا الانتحال حتى بعد أن أصدر "الاتحاد العام للكتاب والصحافيين الفلسطينيين" طبعة ثانية من الكتاب الأصلي (1981)، وبعد أن بدأ اسم الجوزي كمفكر لامع ورائد يعود إلى ذاكرة الثقافة العربية.

يضاف إلى هذا، الأمر الغريب والمثير الذي ألمّ بتراثه، فقد تم تكريم ذكراه ومنحه "وسام القدس" في رام الله في حفل حضره ابنه فلاديمير، وقدّم باحث اسمه شوقي أبو خليل رسالة جامعية عن حياته وعصره وآثاره مستعيناً بمخطوطات وأوراق يبدو أن ورثته قدّموها له كما يقول في رسالته التي أصدرها في كتاب (1993)، ومع ذلك لم يلتفت أحد، سواء إلى 11 كتاباً له باللغة الروسية، وعشرات المخطوطات غير المنشورة، وكأن الرجل شيء آخر غير تراثه وعمله.

وفي هذا السياق، وقعت على مقالة لسلام مسافر، مقدّم برنامج "قصارى القول" في محطة "روسيا اليوم"، نشرها موقع "الحوار المتمدن" الإلكتروني في 18 شباط/ فبراير 2012، يقول فيها إنه اطّلع على بعض من أوراق الجوزي بخط يده في موسكو، وكانت مع طالب دراسات عليا عربي تعهّد بأنه سيقوم بتحقيقها ونشرها، ولكن المخطوطات لم تُنشر، و"يبدو أن ذلك الطالب"، كما يقول سلام مسافر، "نسي المشروع، وربما أضاع أوراق الجوزي النادرة التي وثق ورثته به وسلّموه تراثاً ضاع في زوايا الإهمال".

المساهمون