سيرة المائدة: المطبخ مختبراً لصناعة المعنى

سيرة المائدة: المطبخ مختبراً لصناعة المعنى

12 ديسمبر 2016
"العالم تحت الضغط"، بتول السحيمي/ المغرب
+ الخط -
ليس عبثاً أن يكون بين بلدين جارين؛ الجزائر والمغرب، تسابقٌ لتسجيل أكلة شعبية مثل "الكسكس" لدى الـ"يونسكو" كتراث للدولة. فالطعام ليس مجرّد غذاء، أو مجرّد فعل لمقاومة الجوع؛ إنه معطى اجتماعي ومنتوج ثقافي قبل أن يكون مكوّناً بيولوجياً.

في الدراسات الأنثروبولوجية تردّد كثيراً أن التعرّف على ثقافة مجتمع ما يكون عبر المطبخ واستراتيجيات الغذاء؛ لأنه من خلال طرق إعداد الطعام وتقديمه وتدبيره، ينكتب تاريخ طويل من التصوّرات والممارسات والعلاقات، ومن ذات المطبخ نقرأ توتّرات المجتمع وتوازناته في الفائت والراهن.

لذلك كان اهتمام الأنثروبولوجيا بالطعام منصبّاً بشكل أساسي على سيرورة الطعام وصيرورته، من مرحلة الإنتاج إلى التخزين فالإعداد، ثم الطهي والتقديم والتدوير. إذ يحضر في كل هذه المراحل، الطقس والرمز، ويتواتر الفعل الثقافي للأجيال، ويتم ترسيم الحدود الثقافية وإنتاج التمثّلات الاجتماعية.

يذكر عبد الرحيم العطري، في كتابه "قَرابَةُ المِلح.. الهندسة الاجتماعية للطعام"، أن الأنثروبولوجي الفرنسي كلود ليفي شتراوس (1908-2009)، أوضح من خلال "المثلث المطبخي"، أن التعامل مع الطعام لا يكون معزولاً عن النسق الثقافي الذي ينتمي إليه الفاعل الغذائي. فكل طعام وكل تدبير ممكن لهذا الطعام يتأسّس على سيرورة ثقافية.

"فالانتقال من سجل النيئ إلى المطبوخ إلى المعفّن، والتموضع في وضعيات وسيطية، تماماً كما هو الأمر بالنسبة إلى المشوي والمسلوق، إنهما معاً (الانتقال والتموضع) يحيلان على ممارسات ثقافية تختزن من الرموز والطقوس ما يفيد حقاً في تأويل الثقافة السائدة".

لهذا يعتبر شتراوس دائماً، أن الطبخ هو الأساس المركزي للتطوّر الثقافي. إذ إن الجذور الأولية لـ"آداب المائدة" هي التي تملك "العلبة السوداء" لهذا الانتقال الذي حسم مآلات المجتمع البشري، وحدّد أيضاً أنماط تعاطيها مع الطعام.

فالمائدة في تاريخها، بحسب عبد الرحيم العطري، "تعبّر عن مراحل مهمة من تاريخ هذا الاجتماعي الإنساني، فبعد أن كان النهش والافتراس والتسابق على الطعام، هو المحدّد الرئيسي للأكل، فإن الآداب المؤطّرة للغذاء ستتطوّر، وستتخذ طابع الإلزامية والكونية، مع هوامش مخصّصة للمحلِّي في تأطير الهويات والانتماءات".

ثم إن ما يعكس انتقال الإنسان من الطبيعة إلى الثقافة، هو تعامله مع الطعام في مستويات الإنتاج والاستهلاك والحفظ؛ فعلى طول هذه العمليات نكتشف "المعنى الثقافي" للإنسان. يوضّح صاحب "قَرابَةُ المِلح"، أننا "عندما نستتبع مسار التعامل الإنساني مع أي نوع من الأشربة أو الأطعمة، فإننا نكتشف مسارات من البناء الثقافي الذي يتجاوز المتن الغذائي، إلى الاجتماعي والديني والاقتصادي والنفسي والسياسي... ونكاد نَعبُر بالتالي إلى مخيالهم ونظرتهم للكون".

إننا بذلك نفكّك كثيراً من الشفرات الثقافية لأي مجتمع من خلال طعامه ومائدته. يقول العطري: "إن الطبق البسيط أو العالي الكعب، يظل مُعبِّراً وحمّالاً لأوجه عديدة من احتمالات القراءة، فهو دالّ من حيث المضمون والشكل والمعنى الذي ينتجه، ويبني به استمراريته أو مكانته بين ألوان الطبيخ".

هنا لا بدّ من الوقوف عند "الكسكس"؛ هذا الطبق الذي يُعلي المغاربة من شأنه، ويجعلونه "سيد الأطباق المغربية"، فهو الوجبة الرئيسة التي عُرف بها المغاربة تاريخياً -بغض النظر عن سؤال الأصل، حتى إن اللسان الدارج المغربي يُطلق كلمة "طعام" (بتسكين الطاء) للدلالة على الكسكس.

يشير سرحان، في سياق حديثه عن "ثقافة الأكل السريع" في كتابه "ديوان المائدة"، أن الكسكس "يقدّم عادة في قصعة ثقيلة تقرفص وسط المائدة أو على الأرض، مجبرة آكليه على التحلّق حولها، جاعلة بذلك من نفسها محوراً ورمزاً لثقافة التشارك، فضلاً على أنه -أي الكسكس- مرتبط وجدانياً بأيام الجُمَع والمناسبات وحلقات الذكر". ما يعني أن هذا الطبق لا يستقيم تقديمه من الناحية الاجتماعية إلا ارتباطاً بأزمنة المقدّس.

على العموم، فالمغاربة يتعاملون مع الطعام بنوع من التقديس، ويطلقون عليه اسم "النعمة" في مواقف متعددة، فالخبز والكسكس وبعض الفواكه الجافة -كما يشير العطري- "تظلّ حاضرة بقوّة في تدبير كثير من طقوس العبور، فالنعمة يتوجب تقبيلها وإماطتها عن الطريق، إن وجدت مرمية، كما يتوجّب إكمال "الشهادة"، وعدم ترك قطع أو نتف صغيرة أو قليلة فوق المائدة، فالطعام بما هو نعمة وبركة، لا ينبغي أن يبذر أو يهدر".

من المؤكد إذن، أنه بهذا المنتوج الثقافي الخالص (أي الطعام) ومن خلاله، "نعلن عن انتماءاتنا التراتبية وانحداراتنا الاجتماعية، بل وحتى عن مواقفنا واختياراتنا العقائدية والمذهبية والسياسية. فليس هناك من طعام صامت، إنه حمّال أوجه ومعان، وناطق بالمعلن والمضمر من خطابات وتمثّلات وممارسات"، كما يرى صاحب كتاب "قَرابَةُ المِلح".

وإذا كان الطعام يستمرّ مؤسّساً للجماعي، فإنه مع ما حدث من رجّات ثقافية للمجتمعات اتصالاً بالعولمة واقتصاد السوق، تحوّلت المائدة المغربية (والعربية عموماً) من الكثيف إلى الخفيف، ومن البطيء إلى السريع، ومن الجماعي إلى الفردي.

لقد تحوّل الفرد في المجتمع الحديث إلى "صانع لقراراته الغذائية"، ولم يعد بحاجة إلى الجماعة لاختيار الوجبة ولا توقيتها. فـ"الفاست فود" يسمح بالتغذّي من دون التعرّض للتعقيدات الاجتماعية التي تحيط بالوجبة التقليدية، لكنه غذاء مفرغ من بعده الجماعي، وسلوك غذائي يميل إلى الاختزال والتهجين.

وقد أثار سعد سرحان في كتابه "ديوان المائدة" مسألة "تنميط" الغذاء المرتبط بالعولمة أو "الأمركة الغذائية"، قائلا: "لقد نجحت أميركا، وهي ذات مطبخ طارئ، في أن تحوّل أكلة ملفّقة إلى اقتصاد قائم بذاته، وذلك بفعل دهاء طبّاخيها (هل هم طباخون فقط؟) الذين يتصدّر الماركتينغ قائمة مواهبهم القصيرة جدّا".


المساهمون