شهادات في أكاديمية الصيف: مروان قصّاب باشي معلّماً

شهادات في أكاديمية الصيف: مروان قصّاب باشي معلّماً

30 أكتوبر 2016
(من إحدى ورش "أكاديمية الصيف" في عمّان)
+ الخط -
رحل مروان قصّاب باشي كالمبشّرين الكبار تاركاً وراءه تلامذة يتناقلون أثره وفكره الأقرب إلى الصوفية، لونيته وحساسيته العالية تجاه الأرض والإنسان، يتداولون في ما بينهم المعاني والقيم التي تركها في حقيبة، لكلّ منهم، عند هضبة اللويبدة في عمّان.

دقائق قليلة مرّت على إعلان رحيله، الأسبوع الماضي، تبعها وابل من الصور والشهادات والرسائل التي بدأت بــ"مروان.. الأب والمعلّم"، كما كان يحلو لهم تسميته. ربما في مجتمع سلطوي أبوي كان ينبغي عند أغلب الفنّانين الشباب إيجاد المُعادل الفنّي الأبوي الذي يبدو أن مروان أبدع في تجسيده، بحضور لافت ومؤثّر، شاركهم قلقاً محبّباً غير قلق الموت، وهمّاً غير هموم العيش.

"يا نذير رح جيب كارين ويزن ورح نبقى في دمشق"، قالها قصّاب باشي، يوماً، لصديقه المقرّب نذير نبعة. عانقه حتى الألم، كما يروي قصّاب باشي، بعيون دامعة، وقال: "يا مروان نحنا بنحبك كتير. ولأننا بنحبك كتير، لازم ترجع برلين".

فهم مروان يومها أن رسالة نبعة تشبه تضحية إبراهيم بابنه "أدركتُ أنني إذا صرت رسّاماً كبيراً في الغرب، سأفيد وطني أكثر من أكون رساماً في سورية". وفعلاً، رجع قصاب باشي إلى برلين واستقر فيها، وزاحم فنّانيها وأساتذتها، وشغل منصب أستاذ في "المعهد العالي للفنون الجميلة" هناك.

يعترف قصّاب باشي، في حوار تلفزيوني "لقد تخلّيت عن عقدة الذنب حين تركت أمّي ووطني وأصدقائي كي أقدّم للعام ما يميزني في أوروبا كفنان عربي أصيل".

رسم الفنّان السوري في وجوهه مساراً أو جدولاً، كما يسمّيه، ينبع من القرى الدمشقية، ويروي تضاريس هذه الأرض، منبع يمرّ بلبنان إلى جنوا وصولاً إلى برلين.. يتعرّج، يلاحق النور، ينكشف، يصبح برتقالياً، يستحيل شجرة، تذوب الشجرة، تصبح لوناً، فماءً.

عاش قصّاب باشي في برلين منذ 1957 مستجمعاً ألبوم ذاكرته، ناسباً كل ما قدّمه إلى مشاهدات أوّل العمر: وجه أمّه ووجه الأرض التي وُلد فيها، بتضاريسها الموجوعة من الفراق والحرب الدامية. لقد آمن بمشروعه الفنّي وخطّ دربه بامتياز، وكرّس له حياته.

للنقّاد والباحثين أن يكتبوا في مروان وفنه ما شاؤوا. لكن مشروعاً آخر، لا بدّ من الإشارة إليه وجمع ما يمكن جمعه من شهادات حوله تسجّل دعمه الكبير للفنّانين الشباب العرب، ومساهمته الفعّالة في بناء مشروع فنّي ثقافي ريادي، ربما لقناعته بأن إفادة الفنّان العربي، لا تكفيها لوحة معلّقة على حائط في غاليري لفنّان عربي معروف في الغرب.

كان عليه أن يؤسّس لمرجعية فنية في مجتمع إمكاناته الأكاديمية محدودة وشبابه عايشوا رعب الحرب والأسر الجسدي والنفسي، وعانوا أزمات الهوية داخل نظم اجتماعية وسياسية معقّدة، ليكون التحرّر من وطأتها بالفن، وبإيجاد الجواب عن السؤال الأكبر: ما هو الفن وكيف يحرّرنا؟

كان على قصّاب باشي أن يرسم مساراً معاكساً لجدوله يعيده من برلين ويصبّ هذه المرّة في الأردن، ليروي عطش جيل من الفنّانين الشباب، متحمّس للفن حماسه للشهرة والتميّز في مرحلة اتخذ الفن العربي فيها منعطفاً أساسياً نحو الفنون المعاصرة.

جاء قصّاب باشي ليسأل عن الأصالة في العمل، وليعيد الثقة في اللوحة والرسم والتلوين ثانياً، وإن لم تكن اللوحة فلا بأس، لكن لا بد من استحقاق شرف الولادة كفنان. لقد أدخل على معجم أولئك الفنّانين الشباب مصطلحات جوهرية وأساسية كالأصالة والشرعية، الحضور اللوني وروحانية العمل الفني، الصدق والجرأة، الهجوم على القماش والخصوصية وغيرها.

في العام 1999، اجتمع سبعة عشر فناناً من سورية ولبنان وفلسطين والأردن والعراق ومصر اجتمعوا في "أكاديمية الصيف" التي تنظّمها "دارة الفنون" في عمّان.

كان مشروع الأكاديمية، كما قال في أكثر من مناسبة، هديته إلى الوطن العربي. وربما كان تركيزه على فنّاني "بلاد الشام" مقصوداً، بالنظر إلى قربهم الجغرافي والروحي منه، أولئك الذين يشاركونه اللون البرتقالي وأثر النور على الأحياء الدمشقية، وربما لقرب اللكنة التي تتشابك بها الأمثال بالروايات الشعبية، أما الآتين من فلسطين، وتحديداً غزّة، فالسبب واضح: هم المحاصَرون تحت وطأة الآلة الحربية الاستعمارية، لا مكتبات تليق بهم ولا معاهد فنية مختصة. القضية ملحّة ولا بدّ لها أن تُستثمَر فنياً.

هنا، بعض الشهادات من تلامذة مروان الذين يشغلون، اليوم، موقعاً بارزاً في المشهد الفني العربي والعالمي.


صلاح صولي
"معلّمو معلّمي العالم"، هذا هو اللقب الذي يليق به؛ فهو معلّم الأجيال في ألمانيا لسنوات طويلة في "المدرسة العليا للفنون" في برلين منذ 1982، حيث أغنى الحركة الفنية والثقافية في ألمانيا والعالم. نقل التجربة الفردية إلى العالم العرب، فأنشأ، وبجهوده الجبّارة، "الأكاديمية الصيفية للفنون".

بدأ المشروع وسافرت معه كأستاذ مساعد في السنوات الثلاث الأولى، ضمّت كل سنة بين عشرين واثنين وعشرين طالباً أكثرهم من فلسطين. شهر كامل مكثّف يتضمّن نقاشات وتحليلات وتلازماً شبه دائم حول قصّاب باشي وما أثمر عنه جيل جديد من الفنّانين العرب بدأ يشقّ طريقه ويأخذ مكانة مهمّة في الساحة الفنية.

لقد حمل الشام في قلبه إلى كل الأماكن التي حلّ فيها، فكانت هي بوصلته. أمّا فلسطين، فكانت أيقونة على صدره. أذكر معرضه "إلى أطفال فلسطين" الذي أهداه إلى "مركز خليل السكاكيني" ليكون نواة المجموعة الأولى لمتحف فلسطيني في المستقبل. مروان مكافح ومنه تعلّمنا الكفاح، وهو معطاء ومنه تعلّمنا العطاء.


تغريد دارغوث
ما يحضرني عند حديثي عن مروان قصّاب باشي هو شغفه وطريقته الاستثنائية في التعليم. لم يهتم بما إذا كان الفنان يمتلك مهارة في الرسم الأكاديمي أم لا، فالتقنيات تُكتسب مع الوقت، وكان غالباً ما ينزعج ممّن يميلون إلى تقليده. كان يشدّد على خصوصية كل فنان، وغالباً ما كان يقول "أنت واللوحة واحد".

كان مناصراً بشكل صارخ للقضية الفلسطيني. ولهذا أولى اهتماماً بالفنّانين الفلسطينيين، وتحديداً الغزيين. كان يهمّه في هذا الشهر أن يعطينا قدر المستطاع مما يعطيه لطلاّبه في برلين. رغم كبر عمره نسبياً، كان في منتهى النشاط: نبدأ كلّ يوم في العاشرة صباحاً ونتوّقف عند الثامنة مساء.

لمروان الفضل في شحنة الشغف باللوحة والتلوين التي ما تزال ترافقني حتى اليوم. حين كنتُ أتلمّس طريقي كخرّيجة من معهد الفنون، استطاع أن يعلّمني معنى مواجهة مخاوفي في اللوحة. لم يكن الفن وحده ما جمعنا به، فهو معلّم وصديق وعرّاب.


محمد الحواجري
بذل كل ما يستطيع من أجل تطوير مواهبنا من خلال الانفتاح على الفنون، وكان يولي الرسم والتلوين والحفر اهتماماً أكبر. كان يقضي وقته معنا، ليس كأستاذ بل كأب يتواصل مع أبنائه ويعطي كلاً حقه في الحوارات الجماعية، وأيضاً الفردية التي كان يكتشفنا من خلالها.

آمن مروان بموهبتي في المشاركة الأولى في الأكاديمية. وعند نهاية هذا اللقاء، منحني فرصة ثانية لأنني قادم من فلسطين، وخصوصاً من غزّة. كان يهتمّ بألا نكون نسخة عنه في شكل العمل الفنّي، وحريصاً على أن يُظهر كل منّا شخصيته وأسلوبه الخاص. وعندما يرى أيّاً من الأعمال متأثرة بأسلوبه، يغضب ويبحث عن طرق جديدة، تجّنباً لوقوعنا في التقليد.

مكتبة الدارة كانت غنية بالكتب التي أوصانا بقراءتها، وكان يردّد قول بول سيزان "الطبيعة هي أكبر معلّم". هذه من الجمل التي شكّلت أساساً لفهمي ماهية العمل الفني.

شاركت معه في الأكاديمية لثلاث مرات متتالية، وكنتُ أكثر ثقة في نفسي عندما حصلت على الجائزة الأولى في عام 2000. حفّزني ذلك على المضي قدماً وبلا تردّد في تكريس حياتي للفن، وشكّل دعم مروان سبباً كبير في النأي بي وبزملائي بعيداً عن التعقيدات الفنية التي يعيشها عالمنا العربي بسبب انعدام الحريات.

لا أنسى مروان عندما كان يتّصل أثناء الحروب على غزّة وكان يبكي بكاء الأطفال خوفاً على عائلتي وحزناً بسبب ما وصلت إليه القضية الفلسطينية من تردٍّ سياسي وتخلٍّ عربي. أذكر قصة قالها عندما سُئل لماذا لم تزر فلسطين وأنت تحمل الجنسية الألمانية: "أتمنى أن أزور فلسطين الحرّة لا المحتلة. عندما غادرت عمّان متوجّهاً إلى برلين، مرّت الطائرة من فوق القدس. مجرّد مروري بالقدس آلم قلبي فبكيت".


أيمن بعلبكي
كان يركّز في حديثه معنا على شرعية العمل، لا يشدّد على التقنيات، فقد كان يميل إلى نبذ المهارة في التلوين؛ لأن الفن أبلغ من أن يكون مجرّد حرفة، وكان غالباً ما يمازحنا بأن "المعلّم" بيننا بحاجة إلى صفعة على يده كي لا تعتاد المنطق التلويني نفسه.

تعرّفت إلى أعماله في معرض عن الفن السوري في قاعة "اليونسكو" قبل سنوات من لقائي به في عمّان. في الدورة الأولى بقيت لأسبوع بعد أن اضطررت للسفر إلى باريس عقب قبولي في الـ "آرت ديكو".

ما زلت أذكر سؤاله أوّل لقائي به عن نوع الفرشاة التي أستعملها، وما إذا كانت دائرية أم مربّعة. كان مهتماً بالنظر إلى أعمالي الأولى، وطلب مني العودة إلى دراسات حول المدينة التي طبعت فيما بعد تجربتي الأخيرة. بعد أسبوع، طلب منّي الانضمام إلى الأكاديمية في برلين، لكن موضوع اللغة كان عائقاً بالنسبة إلي، فخُضت التجربة الباريسية.

انضممت إلى الأكاديمية في دورتها الثانية وكانت التجربة قاسية نوعاً ما. كان العمل بشكل يومي ومكثّف، وكنا نلتقي به ونعمل لساعات. لفتني حذره في انتقاء ملاحظاته، وعودته في اليوم التالي ليعيد مناقشتها معي انطلاقاً من منطقي ودوافعي أنا.

امتلك مروان شخصية الفنان الكاملة، حسّ أدبي عال يخاطب حساسيته البصرية الحادّة ويشدّد على مفهوم الصفاء في التعامل مع سطح العمل. لقد شكّلت تجربتي معه، إضافةً إلى تجربة باريس، دعّامة أساسية لقناعاتي الفنية.


محمد جحا
لقد صنع مروان قصّاب باشي لي وللكثير من الفنّانين العرب والغزييّن خصوصاً تجربة إنسانية مهمّة. تعلّمنا من تجاربه وكفاحه في الحياة كيف تصبح اللوحة وطناً في أقسى لحظات الغربة.

لطالما اعتبرته أباً لي، فهو أول من وجّهني وأفادني وأعطاني النصائح حول كيفية توظيف التقنية واستخدام الألوان وقوّم مساري الفني، حتى أنني ما زلت حتى اليوم أتبع خطواته وإرشاداته. لم أنس أية كلمة أو أي حوار دار بيننا جميعاً. لقد عشنا شهراً كاملاً في ضيافة الدارة، وكنّا نلتقي به كل صباح ومساء.

أحياناً كان يقسو علينا، وفي الكثير من الأحيان كان أباً وصديقاً. أذكر أنه ذات عصر يوم من أيلول/ سبتمبر 2003، عندما كنت في الأكاديمية الصيفية أحضَر كتابات كان قد أعدّها سابقاً عن عمل أنتجه خصّيصاً حول احتلال العراق. وعندما قرأ عبارة وسقطت بغداد، اكتنفت صوته غصّة وبكى فأبكانا جميعاً.

للفنان في المنفى حب أبدي خاص لوطنه لا يشعر به من يعيش في حضنه، ونحن أيضاً كفلسطينيين نعلم ونشعر جيّداً بهذه التجربة. تجارب المنفى عاشها مروان قبلنا بخمسة عقود وذاق مرارة تركه ضيعته وأهله وتوجّهه للعيش في بلاد البرد. هذا الفارق الكبير هو ما شكّل تجربته الإنسانية على صعيد واسع، وكان سبباً مركزياً في تشكيل شخصيته الفنية التي تتميّز بطابع الفرادة الخالص.


هاني علقم
كان اللقاء الأول عام 1999 في ورشةٍ في "دارة الفنون"، وكان عمري وقتها 22 سنة. كان مراقباً لكلّ منّا بشكل غير مباشر. ومنذ البداية، أدركت كم أنا محظوظ لكوني قربه.

لم يعلّمني مروان الرسم، بل زرع فيَّ حس الإدراك الذاتي لموهبتي والوعي بما أريد أن أكون عليه. حرّضنا فكرياً. علّمنا أن الفن يحتاج إلى ثقافة ووعي كبيرين، وأن العمل الفنّي موقف وليس مجرّد ألوان.


محمد أبو سل
في العام 1999، التحقت بالأكاديمية، وكان لقائي الأول بمروان الإنسان الذي لم أكن أعرفه عن قرب. فاجأني، إذ لم يكن عادياً. بقيت حواسي كلّها يقظة لكل ما يقوله ويومئ به، فكل كلمة من كلماته وكل إشارة من إشاراته كان يعبّر عنها بعصاه الأنيقة، فيشير إلى كلّ ما هو جديد في تجاربنا المتواضعة.

تمكّن من اكتشاف الحس والحدس والنبوغ لدى كل فنّان مشارك حتى وضعه على الطريق الصحيح الذي يلائمه. حرّضنا على حب الفن وفهمه والإحساس به. تعلّمت منه تقنيات الحفر وكيفية تطويع ذاكرتي وبصري ويدي وفرشاتي وألواني معاً لتحقيق عمل فني خالص.

كان يراقب كل شيء فينا حتى قرأَنا وقرأ أعمالنا بعمق وعلّمنا كيف نقرأ فنّنا وباقي الفنون. ذات مرّة قال لي: "أحب الفسحة الفراغية في أعمالك، أتنفّس الصعداء عندما أراها، فحافظ على هذه الفسحة"، وقال لي أيضاً: "اقرأ عن عاصم أبو شقرة.. واستمر في البحث في نبتة الصبار".

أحببته، وكنت أنتظر لقاءه صيف كل عام في "دارة الفنون"، وكنت من المحظوظين لأنني تتلمذت على يديه، وفي كل مرّة كنت أنهل من علمه الكثير. ولأنني لم أكن أصدّق أن هذا التواضع يأتي من فنّان عالمي لن يتكرّر، كل أعماله ملهمة وتفوق الوصف، لا تستطيع مغالبة شعورك بالهيبة أمام لوحة "الواقف" أو "الوجه والتضاريس" العملاقة الغنية بالتفاصيل وغيرهما.


سيروان باران
ستبقى بصمة مروان قصّاب باشي على جدران المتاحف وفي قلوبنا، كنّا مجموعة محظوظة في العمل معه لمدّة شهر كامل في الدارة في عمّان 2001. كان الزمن قصيراً جدّاً بوجودك معنا، ولكن له أثر كبير.

كان يدين التزويق والعمل التزييني في المشروع الجاد، وقد كان مصيباً ودقيقاً في توجيهاته. يمتلك عيناً حسّاسه ومذهلة تلحظ الشوائب في العمل الفني. صريح لا يعرف المجاملة ولكن لا يجرح، ويحترم طريقة تفكير كل فنان. يفرح كالطفل إذا حرّكه عمل وكأنه من نتاجه، ذو أخلاق عالية وكبرياء وصمت أبوي حزين. مروان أب ومبدع بقلب كبير. قال لي يوماً: "إذا ما دخلت معرضاً فنياً لا تنظر إلى اللوحات السيئة لأنها قد تنفذ في اللاوعي". كما كان يوصيني دائماً بالابتعاد عن تزيين اللوحة: "قد تخسر بابتعادك عن التزيين ميزة تسويقية، ولكن عملك الفني سيكتسب صفة الحقيقة والخلود".


رنا بشارة
بلهجته الشامية الرائعة وشخصيته المتميّزة وفكره النير، التقيت مروان للمرة الأولى قبل 17 عاماً في الأكاديمية الصيفية في "دارة الفنون" في عمّان، فكان لي مفتاح الحياة والفن الحقيقي، حيث منح أحد أعمالي الإنشائية اسماً يختزل القضية الفلسطينية وهو "سرّاق الزيت". أنار بهذه التسمية الفلسفية قنديل الزيت الجليلي في أعماق قلبي ومنحني الثقة والضوء الأخضر في زمن القهر والظلم والمستحيل.

لم يبخل علينا بشيء، بل غرس فينا الإخلاص لفنّنا وحبنا للحياة والمعرفة، حيث جعلني أطوّع المساحات البيضاء وأقتحمها من دون خوف. لقد حفر مخيّلتنا كما يحفر في الزنك الذي امتاز به لتعكس الأبعاد الأخرى للحياة والإبداع وفلسفتهما.

علّمنا مروان التواضع، ووجدت لدي دوماً رغبة قويّة في خوض المغامرات، لكن على قواعد ثابتة وخطى جريئة تبحث في الجذور والتاريخ. كان صمام الأمان وسيبقى إلى الأبد في زمن العهر الفني والحركات الفنية السريعة، هو الذي ربّى جيلاً كاملاً يعتنق الفن ويعشق الجمال ويلازم الإبداع.


خالد بركة
مُغامِراً بلوحاتي، أتيتُ من دمشق حاملاً أعمالي الفنية عَلَّني أُقبَلُ في أكاديمية الفنون الصيفية في عَمّان. قابلني مروان بلطفه المتحفّظ صباح اليوم الأول، ليقبلني ضمن طلابه في مساء ذات اليوم. كانت المرة الأولى التي ألتقيه فيها. أذكرُ بوضوح كثافة حُضوره التي تطغى على كل من وما حوله.

استمرت اللقاءات بشكل يومي طيلة شهر لم يُسعِفُ تكرارها في تخفيف الرهبة من لقاء المعلّم: يسود الصمت بيننا للحظات لدى دخوله، ليبدأ بعدها رحلة إبحارٍ وإبهار لن يحظى بها المرء إلا إن كان أمام فنان بقامّة مروان قصّاب باشي.

خلال شهر واحد فقط، استطاع بحدّة ذكاء نادر أن يؤثّر، إلى الأبد، في كل ما تلقّفته عن الفن خلال أربع سنين عِجاف من الدراسة الأكاديمية التي لا تُغنِي ولا تُفقِر في دمشق.

الحديثُ معه كانَ أوّل امتحان للصدق مع الذات؛ لا مكان هنا "للزعبرة". سطح اللوحة وارتكاز تضاريسها لن تُسعِف مُحدّثه من النجاة من سخرية تعليقاته المهذّبة. لا مساحة إلا للحقيقي والأصلي. زياراته لمرسمي كانت تشبه الذهاب إلى محلّل نفسي: تنطلق بالحديث معه ليقاطعك أحياناً بأسئلة تترك متلقّيها فاقداً توازنه، وفي حيرة من فنّه.


حازم حرب
وصلت إلى "دارة الفنون" في 2001. كنت وقتها أبلغ من العمر 20 عاماً، وأحمل أحلامي وأعباء كثيرة معي إلى عمّان مع زملائي الفنّانين من غزّة، كنا نسمع كثيراً عن مروان والورشة التي يقيمها وكانت بمثابة حلم لنا جميعاً، وتحقّق ذلك والتحقت بها والتقيت به أخيراً.

في لقائي الأول، كنت أحمل معي الكثير من الرسومات التشخيصية والتجريدية على ورق. لم يكن ذلك مغرياً بالنسبة إليه. حاولت قدر المستطاع الاستماع إليه وإلى حديثه الفلسفي والصعب حول رؤيته للفن، لا من ناحية خطابية أو رمزية أو كما كان يقول "جرائدية"، لا بل أبعد من مفهوم الجمال في العمل الفني.

لم أستوعب الفكرة آنذاك، لكن عند عودتي إلى غزّة أدركت تماماً أن شيئاً ما غيّر في مسار عملي وقلب زاوية رؤيتي للفن رأساً على عقب. وبعد مرور سنوات، أدركت تماماً ماذا كان يريد منّا.

في آخر لقاء جمعني به لمساعدته في مرسمه في برلين لترتيب لوحاته، وقد كنت على قدر من النضوج لا بأس به لأفهم لغته وأحاديثه ونمنماته المتفرّقه، قال لي: "هل فهمت يا حازم ما هو الفن الآن؟"، ورددت بالإيجاب.

لم أدرك أبداً أنه سيكون السلام وكأس الشاي الأخضر الأخيرين في مرسمه البرليني.

المساهمون