دينا رزق خوري: مرآتان للعراق

دينا رزق خوري: مرآتان للعراق

26 أكتوبر 2016
(سوق شعبي في الموصل، 1932)
+ الخط -

ضمن سلسلة المحاضرات السنوية التي ينظّمها "المجلس العربي للعلوم الاجتماعية"، عُقدت المحاضرة الثانية مؤخراً، لاستعادة الباحث والمؤرخ الفلسطيني الراحل حنّا بطاطو في عمّان، بعد المحاضرة الأولى التي أُجريت العام الماضي في بيروت. المحاضرات التي بدأها المجلس عن بطاطو تمثّل "فرصة للاحتفاء بعلماء اجتماع بارزين من المنطقة العربية" كما يصفها المجلس، وهي سلسلة سيتبدّل موضوعها كل أربع سنوات.

ضمن هذا السياق، تأتي استعادة بطاطو مساهمة في إعادة إحياء أعماله البحثية الهامة التي لطالما بقيت ضمن نطاق أكاديمي ضيق.

وتحت عنوان "المجتمع والتاريخ في العراق بين حنا بطاطو وعلي الوردي"، حاضرت الباحثة والمؤرخة اللبنانية الأميركية دينا رزق خوري المتخصّصة، مثل أستاذها بطاطو أيضاً، في تاريخ العراق الحديث، وقدّمت مقارنة للمنهجية المختلفة التي اشتغل من خلالها كل من بطاطو (1926-2000) والوردي (1913-1995) في أبحاثهما الاجتماعية عن العراق.

وانطلقت خوري، بالدرجة الأولى، من كتاب بطاطو المرجعي الضخم "العراق: الطبقات الاجتماعية والحركات الثورية من العهد العثماني حتى قيام الجمهورية" (1978)، الذي يعدّ من أهم المراجع عن تاريخ العراق الحديث (ترجمه عن الإنكليزية عفيف الرزاز في ثلاثة كتب وصدر عن "مؤسسة الأبحاث العربية" في بيروت عام 1990)، أما الوردي، فقد ألّف "لمحات من تاريخ العراق الحديث"، وهو كتاب لقي انتشاراً أوسع.

في بحثه في تاريخ العراق الحديث، قسّم بطاطو كتابه الضخم إلى ثلاثة أجزاء، قدّم في الجزء الأول منه دراسة طبقية لملاّك الأراضي ورجال المال والتجارة في العراق ما قبل الحكم الجمهوري، حيث ركّز في بحثه على الطبقات الأغنى خلال العهد الملكي مع تناول بحثيّ يرجع لتاريخ العثمانيين أيضاً. وبحث أيضاً في طبقة ملاّك الأراضي والتجار والأثرياء العراقيين من خلال دراسة أوضاعهم الاجتماعية وتاريخ عائلاتهم وثرواتهم ومواقعهم في المجتمع السياسي.

كان الجزء الأول ضرورياً كمقدّمة أساسية لفهم الجزأين الثاني والثالث اللذين تتبّع فيهما بطاطو تاريخ الحزب الشيوعي العراقي، وحزب البعث وثورة الضبّاط الأحرار؛ الحركات السياسية التي شكّلت، في نظره، أول تعبير عن الطبقة الوسطى في العراق، بعد أن تتبّع أصولها الفكرية والسياسية والاجتماعية ووصف تراكيبها التنظيمية.

أنجز بطاطو بحثه الضخم من خلال سفره إلى العراق بدءاً من الخمسينيات، حيث أتيحت له فرص نادرة في عهدي عبد السلام عارف والبعث، وسُمح له بالاطلاع على ملفات الشرطة السياسية السرية عن الأحزاب والشخصيات السياسية العراقية، وعلى الأدبيات والمخطوطات الحزبية المصادرة، إلى جانب مقابلات مع شيوعيين معتقلين في السجون البعثية في الستينيات، وسجلّات أخرى مثل تقارير الاستخبارات البريطانية ومصادر ومذكرات عربية، إضافة إلى عدد هائل من المقابلات مع عراقيين من جميع فئات المجتمع.

من هنا، من هذه المصادر الصعبة والمتنوعة، ظهر الكتاب كتاريخ ضخم للشعب العراقي من "مجتمع سابق للحداثة ومبنيّ على الولاءات القبلية والجماعية، إلى مجتمع طبقي حديث تتعايش فيه ولاءات الطبقة والأحزاب السياسية"، والذي اعتمد فيه بطاطو على تحليل ماركسي وفيبري للطبقة والمكانة.

على العكس منه، كان الوردي متأثراً بابن خلدون ومنهجيّته في علم الاجتماع، ودعا أيضاً إلى دراسة المجتمع العربي بخصوصية عربية انطلاقاً من فكر ابن خلدون، وهو ما عرّضه لجملة من الانتقادات من قبل القوميين واليساريين والجيل الذي تلاه من الباحثين في السبعينيات من القرن الماضي.

وخلافاً لمنطلق بطاطو الماركسي، وتحليله الطبقي الذي فسّر تطوّر المجتمع العراقي من ما قبل حداثي إلى حداثي من خلال صراعات طبقية، ركّز الوردي على الصراع بين البداوة والحضارة وأثر البداوة والقبيلة في تكوّن الشخصية العراقية وصراعها مع ثقافة حياة المدينة المتكوّنة.

مقاربة المنهجية هذه، كانت لبّ محاضرة خوري في تقديمها للاستنتاجات المختلفة التي وصل إليها كل من بطاطو والوردي في أبحاثهما عن العراق، وهو أيضاً ما أثّر في سعة انتشارهما عربياً؛ فبينما كان بطاطو ماركسياً يبحث ويحلّل بمنهج علمي يعتمد علم الاجتماع السياسي ويكتب بأسلوب أكاديمي متخصّص، كان أسلوب الوردي في السرد "سهلاً، وانطباعياً لا منهجياً لعامة القراء، معتمداً على المنهج الخلدوني" على حد تعبير خوري، وهو على عكس بطاطو "لم يكن مفكراً أو باحثاً منهجياً، وكان ينتقي نظريات علماء الاجتماع الأميركيين ويسعى إلى توظيف مجتمعه معتمداً على أعمال ابن خلدون، بشكل سطحي أحياناً لإثبات ادعاءاته من دون أن يوضّح بالشكل المفصّل طريقته في الانتقاء".

ولهذا، كان موضع نقد من دارسي علم الاجتماع العراقيين من جيل ما بعد السبعينيات، الذين شعر معهم بشيء من التهميش، بالنظر إلى أن منهجيتهم كانت أكثر انضباطاً من الناحية العلمية والأكاديمية.

لم يؤمن الوردي بقدرة التنظيم السياسي الشعبي على إحداث تغيير اجتماعي، ولم يؤمن بانتفاضة 1920 المفصليّة في تاريخ العراق الحديث، واستنتج أن الثقافة الشخصية للعراقي ليس باستطاعتها استيعاب التنظيمات الاجتماعية الحديثة، مبرراً ذلك باستمرارية الصراع بين البداوة والحضارة، ومصرّاً على استثنائية الشخصية العراقية.

فبحسب خوري، اعتبر الوردي الصراع في الشخصية العراقية "حالة ذهنية وقوة تدميرية، فالبداوة عبارة عن مجموعة من الممارسات الاجتماعية والثقافية التي استطاعت البقاء في المدن والأرياف، حيث تزرع في المجتمع الانقسام والصراع، صراعاً بين الحديث والقديم، بين التراث والحداثة"، وعلى النقيض من بطاطو، اعتبر الوردي أن هذا الصراع "مستمر يصوّر تطوّر جوهر العراق في العصر الحديث، وهذا الصراع بين الحضارة والبداوة هو ما يميز الاستثنائية العراقية".

في تقديمها للمقاربتين، تلتفت خوري إلى الغائب في أعمال الوردي، وهو "أية محاولة جادة للتعاطي مع التجربة الاستعمارية في العراق أو تفسير دور الدولة في خلق الطبقات الاجتماعية والصراعات السياسية الجديدة"، إلى جانب "تشكيكه في دور الحشد الجماهيري والثورة والتمرّد في صياغة الهوية العراقية".

لكن على الرغم من هذا، فإن خوري تقرّ أن تفاؤل بطاطو لا ينطبق اليوم على راهن العراق، وأن من ينظر إلى واقع البلاد الحالي سيميل إلى أن يجد في الكثير ممّا قدّمه الوردي معيناً على فهم الحاضر "حيث ساعدت إعادة نشر أعماله في تدعيم سردية وطنية عراقية تمّ قمعها في عهد البعث، وفيها نفس منعش بعيد عن الأيديولوجيا".

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
استجواب الطائفية 
ترى دينا رزق خوري (الصورة) أن بطاطو لم يكن مهتماً بتأريخ الطائفية، لذا "علينا إعادة استجواب أسباب الطائفية والعشائرية في العراق، لأن بطاطو ظن أنها ستندثر"، وبالتالي "إعادة تأريخ الطائفية في العراق واستكمال ما بدأه بطاطو، انطلاقاً من منهجيته في دراسة المركب الاجتماعي الحالي لمجموعة ولاءات غير ثابتة، ومفعّلة بمصالح اقتصادية. ودراسة طبقات جديدة ولدت من التحوّل الاقتصادي العالمي والحرب".

المساهمون