"مشروع مصر الحديثة".. هذا ليس استشراقاً

"مشروع مصر الحديثة".. هذا ليس استشراقاً

18 أكتوبر 2016
من المعروضات (العربي الجديد)
+ الخط -

على منضدة ليست كبيرة جداً، في "ساحة ممر كوداك"، وسط العاصمة المصرية، رُصّت مجموعة من الأغراض تمثّل نموذجاً لأشياء من الحياة اليومية لدى المصريين في القرن الماضي؛ ماكينات حياكة وأجهزة راديو منزلية وملصقات دعائية وصناديق سجائر وآلات طابعة، هناك أيضاً نسخ من مجلة "الشباب العربي" ومن صحيفة "المقطّم".

في المعرض أيضاً صناديق بريد صدئة، ورقعة شطرنج حجارتها على هيئة الفراعنة وغيرها. هذه المفردات عبارة عن افتتاحية أولى لما أُطلق عليه "مشروع مصر الحديثة" الذي يرعاه "المتحف البريطاني"، وينسّقه المعماري والأكاديمي محمد الشاهد.

باستثناءات قليلة جداً تخصّ الصور الفوتوغرافية والمجلات والصحف، فإن المعروضات التي تأتي في معظمها من فترتي الخمسينيات والستينيات لن تجدها في أي من متاحف القاهرة أو في المعارض الفنية، وفي حديثه إلى "العربي الجديد"، يعدّد محمد الشاهد الأسباب التي دعت إلى مثل هذا المشروع بالقول: "الغرض كان تطوير الصورة التي تقدّم بها مصر داخل المتحف البريطاني، عبر تقديم الأدوات المادية في الحياة المصرية الحديثة".

لا يغيب عن بال الشاهد وهو يقوم بذلك موضعة الشرق كمكان غرائبي خارج مفهوم الحداثة في التصوّر الغربي، الأمر الذي وجد صداه في تصوّر الشرق عن نفسه أيضاً "المتاحف الغربية تقوم بتقسيم التاريخ المصري لأربع مراحل؛ فرعوني ويوناني روماني ثم قبطي وأخيراً إسلامي، مع أن سيرورة التاريخ المصري تنافي ذلك"، ويكمل "هناك تأثيرات متبادلة واستمرارية عفوية وليست انفصالات واضحة وصريحة هكذا".

التحقيب الفجّ الذي يرفضه الشاهد، والذي تبنّته المتاحف المصرية ذاتها فيما يوحي بنظرة غرائبية معكوسة، ورؤية للذات مركزها التصوّرات الغربية، كان دافعاً إلى إقامة هذا المشروع الذي قُدّم كتجهيز مركّب لا كمعرض. يؤكّد الشاهد على هذه الفكرة بالقول "أي معرض من حيث الفكرة ربما يحكي شيئاً ما في تجاور الأشياء، لكننا لا زلنا نختبر الفكرة، كما أن ما لدينا من مفردات مادية ليس كثيراً لنقدّم من خلالها رأياً الآن".

يحاول المعرض إذن أن يمنح للأشياء المادية قيمة في ذاتها، وأن تحكي قصة عبر فردانيتها. هذا يمكن ملاحظته مثلاً عبر إحدى القطع المعروضة وهي "ماكينة خياطة نفرتيتي". تلك التي كانت تمثّل مشروعاً اقتصادياً واجتماعياً بدا طموحاً في الحقبة الناصرية، عبر تمكين المرأة وتحويلها لأحد سواعد المشروع الناصري الوليد الذي كانت إحدى ركائزه الأساسية طبقتا العمال والفلاحين.

في كتابه "الاستشراق"، حاول إدوارد سعيد أن يبرهن على عدم فرادة الشرق عبر تتبّعه لجذور الخطاب الغربي الذي رأى الشرق ككون غرائبي ومتمايز. ولم يكن هذا التمايز يعني شيئاً سوى تشويه صورة الشرق أو الانبهار به. ما أشار إليه كتّاب الاستشراق، ضمناً، هو أن الشرق وفقاً لذلك الخطاب الغربي لا يمكن له أن يخطو إلى عالم الحداثة، "ذلك ما تحكيه المتاحف الغربية عن الشعوب غير الغربية، عبر تصوير حضاراتهم كحضارات قديمة أو مندثرة"، يقول الشاهد، ثمّ يتابع أيضاً أنه لا يرى في المشروع استشراقاً معكوساً كما يظن البعض، كون "المتحف البريطاني" هو الذي يقوم على الفكرة ويدعمها، ويشرح "بالعكس، أنا أستفيد من دعم المتحف لتقديم صورة شخصية وحقيقية عن الذات، بدلاً من أن يقدّمها آخر عني". يضيف كذلك "كان من الأولى أن تقوم مؤسسات الدولة برعاية مثل هذه الأفكار، لكن هكذا هو الحال للأسف".

إحدى المفارقات الساخرة التي يحكيها الشاهد تخصّ بعض موظفي وزارة الآثار المصرية ممن زاروا المقر الذي انطلق منه المشروع، ففوجئوا بالمعروضات لدرجة دفعت أحدهم إلى القول باستنكار "كيف لهذه الأشياء أن تكون معرضاً؟ لدينا مثلها في بيت جدتي!".

حكاية الشاهد تصبّ في تلك الصورة المعكوسة عن الشخصية التي تتبنّاها الدولة المصرية في ما يخصّ تاريخها، يسري ذلك على المتاحف وعلى كتب التاريخ في المدارس النظامية والذي ينعكس بدوره على رؤية عموم المصريين، لكن المعروضات - خلافاً لفكرة التحقيب الزمني وحتى الطبقي - ترسم ما يمكن اعتباره خطاً عرضياً بين عموم المصريين، ويبدو الأمر مفهوماً في سياق استعراض أشياء تنتمي إلى القرن الماضي، ذلك الذي وسمته التجربة الناصرية بأكثر سماتها وضوحاً: صناعة الطبقة الوسطى و"نداء الشعب"، إذا استعرنا عنوان كتاب المؤرخ شريف يونس.

الأسئلة التي يمكن أن يثيرها "مشروع مصر الحديثة" لا حصر لتناسلها، وقد تبدأ من الاسم ذاته: عن أي "مصر حديثة" يمكن الحديث؟ وما المقصود بصفة "الحديث" هنا؟ ثم أين يمكن الإشارة للحظة محددة زمنياً يكون جائزاً معها القول إن مشروع التحديث بدأ منها؟ هذه الأسئلة وغيرها يقول الشاهد إنه من الجيد أن يساهم المشروع في إثارتها عبر هذه الطريقة الجديدة من العرض المتحفي "ليس لدينا إجابة وحيدة وواضحة، إنما نضعها أمام الجميع ونحاول الإجابة عنها معاً وحتى المجادلة بشأنها".

قُدّرت فترة اختبار "مشروع مصر الحديثة" بسنة واحدة، باعتباره مشروعاً بحثياً يطرح أسئلة عبر وسيط جديد ويحاول تقديم إجابات بشأنها عبر معروضاته، ومن المفترض أن تُضاف المعروضات بعدها إلى المجموعة المصرية في "المتحف البريطاني"، كما أن المتحف يزمع إهداء الحكومة المصرية مجموعة مشابهة من المعروضات ليضمّها متحف مماثل في القاهرة، "السؤال الذي سيقفز تلقائيا للأذهان: أين هو ذلك المتحف المصري الذي سيقبل باقتناء هذه المعروضات إذا ما وضعنا في الاعتبار الموقف الهزلي سالف الذكر لموظفي وزارة الآثار المصرية"، يتساءل الشاهد.

تبقى الإشارة أخيراً إلى العديد من الكتابات التي وضعها غربيون عن مصر والمصريين، تفاوتت أغراض أصحابها ونظرتهم بطبيعة الأحوال، بدءًا بكتاب "وصف مصر"، الذي وضعه علماء حملة نابليون، مروراً بـ"عادات المصريين المحدثين وشمائلهم"، لـ إدوار وليام لين، وليس انتهاءً بكتاب ستانلي لين بول "الحياة الاجتماعية في مصر، وصف للبلد وأهلها"، تشعّبت التفاصيل فيها وتباينت الآراء لكنها بقيت في الأخير - بعد الوعي المحلي بأغراضها - أسفاراً دالّة على حياة المصريين ومسالكهم، وفي "مشروع مصر الحديثة" تضع البلد وأهلها على طاولة التشريح الذاتي عبر استكشاف العلاقة بأدوات حياتهم اليومية، كيف شكّلوها وكيف تشكّلت هوياتهم تبعاً لها، ذلك يعني مما يعنيه رسم صورة للذات، تستبعد النوستالجيا و/أو الغرائبية المعكوسة، عبر وجهة نظر أصحابها وربما للمرة الأولى في تاريخ هذه المنطقة.


المساهمون