منذر جوابرة.. في حضرة الملثم الغائب

منذر جوابرة.. في حضرة الملثم الغائب

19 يونيو 2015
"المدينة في مواجهة البحر"، طباعة رقمية، 80×120
+ الخط -

سألنا منذر جوابرة عن طبيعة المشروع الذي يقدّمه في المغرب، فأوضح في لقائه مع "العربي الجديد" أن "موضوع المقاوم الملثم له امتداداته الأسطورية والرومانسية والرمزية في الوجدان الفلسطيني. بمعنى آخر، إنه سؤال قاسٍ عمّا انتهت إليه هذه الشخصية الفذّة، التي كانت تجعلنا نحسّ بذلك الشعور من المثالية والتضامن، ومن التفكير الفلسطيني المشترك".

بدأت فكرة المشروع مع نزول الفنان إلى شوارع رام الله وهو يعتمر كوفية، يقول: "فعلت تماماً كما كان يفعل الملثم الذي اختفى، كي أختبر أحاسيس الناس وأسمع آراءهم وردود أفعالهم حول هذه الشخصية التي كانت تحظى بثقة كبيرة وباحتضان شعبيّين من قبل الناس العاديين، لدرجة كانوا يفتحون لهم بيوتهم كلما كان يطاردها جيش الاحتلال".

ويضيف: "لبست الكوفية، وقمت بتوزيع حوالى 250 حجراً على الناس، وسألتهم ما الذي يمكنكم فعله بهذه الحجارة؟ لأرى رد فعلهم. لكن النتيجة كانت صادمة. ذلك أن الكثير منهم تفاجأوا بهذا الملثم الذي يمشي بينهم، على الرغم من أننا ما زلنا تحت الاحتلال. بل أكثر من ذلك، كنت أتعرّض أحياناً للمضايقات من طرف أشخاص ظنوا أنني كنت أسخر منهم. بعضهم حسب الأمر مجرّد كاميرا خفية. في المحصلة، لا أحد منهم اقتنع بأن الأمر يتعلق بمشروع فني. أكثر من ذلك، كنت موضوع بحث ومساءلة من طرف المخابرات الفلسطينية التي تفاجأت بهذا المشهد".

وفي سؤال عن تفسيره لردود الفعل هذه، يوضح جوابرة أن "هذه النتيجة أكدّت لي أن مشروع المقاومة الفلسطينية أصبح آخذاً في التلاشي. هناك تحوّل في القيم وفي القناعات انعكس كذلك، وبشكل كبير، على مصطلحاتنا ومفاهيمنا المعتادة. ففي الماضي كنا نتحدّث عن الفدائي، ثم انتقلنا للحديث عن الملثم، بعدها أصبحنا نتحدث عن المقاوم، ثم وصلنا إلى مرحلة الناشط، قبل أن نصل اليوم إلى الفلسطيني المتضامن. هناك، إذاً، تراجع كبير في المعاني. هذا الأمر زكّته أزمة الإرهاب التي طالت اللثام. لدرجة أن السُلطة باتت تتعامل، أحياناً، مع شخص ملثم بكوفية على أنه خارج على القانون، أو بالأحرى مشروع إرهابي".

يكشف لنا جوابرة أن تجربة اللثام والأحجار هذه قادته إلى تجريبها في أوروبا، وتحديداً ألمانيا. يقول "قمت بنقل هذه التجربة إلى مدينتين ألمانيتين، هما كولون وبرلين، لأختبر رد فعل المجتمع الأوروبي. في برلين، كانت الحالة لا تختلف كثيراً عمّا حصل في رام الله، مع فارق بسيط، هو أن الناس - باستثناء أشخاص قليلين كانوا على اطلاع - خافوا من الملثم، الذي كان يتقمص دوره صديق ألماني، بينما كنت أتولّى تصوير ردود فعل الجمهور. أما في كولون، فقد استعملت حجارة تعود إلى مخلفات الحرب العالمية الثانية، التي تربط ذاكرة الشعب الألماني بتاريخه، وتجعله يفرّق بين معنى المقاومة ومعنى الإرهاب. هنا كانت النتيجة مذهلة. فقد وقف الناس لأكثر من ربع ساعة للتحاور والنقاش والتفاعل، بحيث كان التجاوب كبيراً ومتعاطفاً".

من المعرض


ويضيف "من هنا، تولّدت لديّ فكرة الاشتغال نقدياً على موضوع الملثم الغائب؛ الملثم النائم والملثم المحبط. الملثم الذي تخلى عن هُويّته المقاومة وأصبح يلبس بدلة عصرية. وفي كل ذلك، كنت أحاول تسليط الضوء على التحوّلات السياسية التي عاشها هذا المقاوم، قبل اتفاق أوسلو وبعده. هذا الأمر استمر في مشاريعي اللاحقة، التي حاولتُ خلالها تقديم شهادة فنية على زمنين فلسطينيين مختلفين عرفت فيهما القضية تحوّلات خطيرة".

غير أن الفنان الفلسطيني وهو يتطرق لمثل هذا الموضوع الشائك، يضع مسحة من السخرية. لذلك حاولنا استقصاء سر ذلك ووظيفته الفنية. يجيبنا جوابرة: "هذه المسحة الساخرة تستمد عمقها من حالة المقاومة الفلسطينية نفسها، وهي تنتقل من طابع إلى طابع آخر؛ ما جعلها تصبح ذكرى بعيدة. لقد أصبح الفلسطيني، أمام هذا الواقع الجديد، يبحث عن فرديّته منشغلاً بتفاصيل حياته الخاصة، عن ضمان قوته اليومي ورفاهيته. هناك انسلاخ، أو بالأحرى هناك نقلة حدثت بشكل مفاجئ لم يتم استيعابها بالشكل المطلوب، لا سيّما أننا ما زلنا تحت الاحتلال. هذا الانتقال الغريب كان من الطبيعي أن يُولّد حالة من الإحباط. إلا أنني، شخصياً، ما زلت متشبثاً بالأمل، على الرغم من سوء الفهم الكبير الذي ينجمُ جراء العلاقة الطارئة التي باتت تنسجها السلطة مع المواطن البسيط، وهي علاقة صدامية، بل فيها كثير من عدم الاعتبار. إنه نوع من المكافأة غير المتساوية مع ما قدمه المواطن الفلسطيني لقيادته بعد عودتها من منفاها في تونس، وهو ما حاولت أن أعكسه بشكل ساخر".

وعن مدى قدرة الفنان على الحفاظ على مسافة مطلوبة مع السياسي، بما يساعده على نقد الأوضاع وتغييرها، ويُؤمّن حرية صوته المتفرّد، يعتبر جوابرة أنه "لا ينبغي أن نثقل كاهل الفنان بهذه التقييمات. فالمفروض أن يكون كل فنان صاحب موقف بالدرجة الأولى، وصاحب صوت أعلى داخل المجتمع، وينبغي أن يكون هذا الصوت مسموعاً، وأن يصل بسهولة إلى كل الناس. لكن ليس كل ما يقدّمه الفنان يمكن أن يجد صدى له داخل المجتمع. من هنا ضرورة أن يتسلّح الفنان بأكبر زاد من الثقافة والوعي حتى يستطيع الدفاع عن أفكاره ومشاريعه. وليس مطلوباً منه أن يقصر حديثه على القضايا العامة، بقدر ما هو مطالب بالتعبير عن الأشياء القريبة منه، وممّا يحسه ويشعر به".

ويؤكد أن "الفكر والثقافة والفن والإبداع تشكل جميعها تلك الجبهة الأخيرة التي يمكن أن تنقذ ما ينبغي إنقاذه. ونحسّ، اليوم، بأننا أمام خطوط هذه الجبهة المتبقية. لذلك، أعتقد أن دور المثقف بشكل عام، هو الجهر بالحقيقة في وجه من يحاول إخفاءها أو التدليس عليها، ليُذكّر الناس بتاريخهم المشترك والمضيء. ومن هنا، يبدو ضرورياً عودة كل فنان فلسطيني إلى طرح القضايا السياسية في مشروعه الفني، على الأقل في الوقت الراهن. فلا يمكن فصل الفن عن السياسة أو الدين أو المجتمع".

وعن دوافع إقامة معرض "ما يُعرف" في المغرب، يجيب جوابرة "بكل بساطة، قدّمت طلباً لإقامة معرض في "دار الفنون" في الرباط، وهي أول جهة أقدّم لها طلباً كهذا، فوجئت بسرعة قبولهم استضافتي، فأنا ما زلت أحلم، ككل فنان، بتجاوز الحدود التي أنشط فيها، بما يفيد عملي ويطوّره ويتيح لي فرصة الاستفادة من تجارب أخرى مختلفة. لذلك أعتبر هذه التجربة مؤشراً إيجابياً على نجاح عملي، لا سيما وأنا أعرض في إحدى أهم القاعات في المغرب".

المساهمون