عاصمة الثقافة العربيّة: قسنطينة قبل موعدها

عاصمة الثقافة العربيّة: قسنطينة قبل موعدها

08 مايو 2015
مشهد من قسنطينة (تصوير: ريزا)
+ الخط -

في صيف عام 1969، لم أكن موجوداً على هذه الأرض. ولذلك السبب، تحديداً، فاتتني رؤية قوافل الحجّاج الآتية من كلّ فجّ أفريقي عميق، إلى الجزائر التي كانت تعيش عامها السابع من عمر الاستقلال.

بيد أنّي رأيتُ بعضاً من ذلك في ذكريات كان يرويها، بكثير من الفخر والحنين، بعضٌ ممّن عاش تلك الأيّام الخوالي، وقد تمثّل البلدُ قِبلةً لثوّار العالم وحركاته التحرّرية.. وسمعتُ شيئاً منه في صوت مريم ماكيبا (مطربةٌ جنوب أفريقية)، وهو يصدح برائعتها الخالدة "أنا حرّة في الجزائر".

أمّا في صيف عام 2009، فقد كنتُ هنا. عاد "المهرجان الثقافي الأفريقي" إلى موطنه الأمّ، فرُحت أتنقّل من نشاط إلى آخر، لا لأملأ الصفحتين الثقافيّتين اللتين كنتُ أشرف عليهما في إحدى الصحف الجزائرية، بل لأستعيد ذكريات لم أعشها، ولأبحث عن تلك الروح الأفريقية الشفّافة التي لاح لي قبسٌ منها، خلال تلك القصص والأغنيات القديمة.

عثرت على الخيبة. وقرّرتُ أنّ عليّ الاعتراف بأحد أمرين: أنّني كنتُ مغفّلاً، بحيث صدّقت كلّ ما سمعته، أو أنّ روح أفريقيا، بعد أربعين عاماً، لم تعد بذلك الصفاء.

بدأت التظاهرة بافتتاح شعبي تمثّل في استعراض فولكلوري أثّثه فنّانون وُزّعوا على مجموعات تحملها عربات صغيرة تُحيل كلّ واحدة منها إلى ثقافة بلد معيّن. انطلق الموكب من حديقة "صوفيا"، أمام مبنى البريد المركزي في الجزائر العاصمة، وانتهى إلى حيّ "باب الواد" الشعبي الشهير، حيث نال تعيسو الحظّ نصيباً من الحجارة، التي انهال بها عليهم فتيان استفزّهم مشهد الراقصات والراقصين شبه العراة في الشارع، وربّما رأوا أنّهم أحقّ بالمال الذي سيعود به هؤلاء إلى بلدانهم، هم الذين اعتادوا ذرع الشارع ذاته، جيئةً وذهاباً، وعلى أقدامهم، من دون أن يُكافَؤوا بفلس واحد.

باستثناء ذلك الموقف الطريف، استمرّت فعاليات التظاهرة ونشاطاتها، على مدى خمسة عشر يوماً، من دون أن تسجّل أمراً آخر يستحقّ الذكر.

اللاّفت أن المهرجان، الذي يُفترض أن يُقام مرّة كلّ سنة في دولة أفريقية مختلفة، توقّف أربعين سنة كاملة، قبل أن تُقام دورته الثانية في البلد الذي احتضن دورته الأولى قبل قرابة نصف قرن. بالتأكيد، كانت لدول القارّة أولويّات أخرى لصرف ميزانيّاتها الشحيحة، غير تبذيرها على مهرجان ثقافي.

ولمّا كان البلد ينعم، في تلك الأيّام، ببحبوحة مالية، بفضل عائدات النفط الذي لم تهو أسعاره بعد، لم يكن مسؤولوه ليجدوا وضعاً أكثر مثاليةً من هذا، ليُثبتوا بأنّه خيرٌ من اثنين وخمسين بلداً أفريقيّاً. والحقّ أن تلك المعلومة تستحقّ إقامة مهرجان كامل للتبجّح بها.

سُخّرت إمكانات وطاقات مادية وبشرية مهولة لإنجاح الفعالية. وكصحافي ثقافي مبتدئ؛ تساءلت، بسذاجة، عمَّ ستجنيه الجزائر وثقافتها من التظاهرة التي خُصّص لها نحو 800 مليار سنتيم، فكنتُ أسمع جواباً واحداً من كلّ المسؤولين، كما لو أنّهم لُقّنوه تلقيناً: "عودة الجزائر إلى المحافل الأفريقية وإسماع صوتها وتحسين صورتها في القارّة السمراء".

الحقيقة أن الجزائر غابت فعلاً، إلاّ عن نشرات الأخبار، لأزيد من عقد، بسبب ما ألمّ بها منذ بداية تسعينيّات القرن الماضي. وخلال تلك الفترة السوداء، لم يحاول أحدهم مدّ يده إليها لينتشلها من عزلتها، ولم ينظر إلى وجهها المغمّس بالدماء والدموع. وحين بدأت تستعيد عافيتها، تصرّفت كما لو كانت مضطرّة لتثبت للعالم الذي تخلّى عنها، بأنّ وجهها لا يزال جميلاً.. وبأنّ الدماء والدموع لم تحوّلاها إلى مسخ.

هكذا، أصبح هذا التبرير كافياً ليُخرس أيّ منتقد أو مشكّك أو متسائل: "إعادة الجزائر إلى المحافل الدولية وإسماع صوتها وتسويق صورة مشرقة لها إلى العالم". كانت تلك الأهداف النبيلة أثمن، بلا شكّ، من كلّ أموال الدنيا، ومن تلك المليارات التي قال أحدهم إنها تكفي لبناء أربعة آلاف مسكن ومائة وستّين مؤسّسة تعليمية.

ظللتُ أسمع الجواب ذاته كلّما سأل سائلٌ عن جدوى وأهميّة وأهداف وفوائد التظاهرات الثقافية، التي تلاحقت في السنوات التالية، متبوعاً ببشرى ثورة ثقافية تتراكم لتُحدث انفجاراً في لحظة مستقبلية ما. ولاحقاً، فقدتُ الحماسة لطرح أيّ سؤال ذي صلة بميزانيّة أيّة تظاهرة ثقافية، خشية أن أُتّهم بالإساءة إلى صورة وطني في الخارج والتشويش على صوته، والمساس بمكانته الدولية.. أو بمحاولة إجهاض ثورته الثقافية.

من الواضح أنّ لا أحد تعنيه مسألة تحسين صورته في الخارج إلاّ نحن، حتّى أنّنا لم نعد نفوّت أيّة فرصة لاقتناص التظاهرات الثقافية.. وها هي "عاصمة الثقافة العربيّة" تعود إلينا بعد ثماني سنوات فقط، بينما يُفترض ألاّ تعود إلاّ بعد اثنين وعشرين عاماً (بعدد الدول العربية)، بسبب تخبّط بلدان عربية كثيرة في أزماتها.

لكن مسؤولينا يرون في العشوائية أيضاً فرصةً أخرى لتسويق صورة إيجابية للأجانب الذين "سيجدون الجزائر ورشة إنجازات كبيرة ومفتوحة"، بتعبير الوزير الأوّل. تلاحظون، إذاً، أن اهتمامنا بصورتنا لدى الآخر بلغ درجة الهوس المرَضي، حتّى أنسانا تماماً كيف نرى أنفسنا.

تريدون الحقيقة؟ نحن آخر من تعنيه قصّة التسويق لصورته. وإلاّ فما الذي يقدّمه الإعلام الرسمي وتقدّمه مئات السفارات والممثليّات الديبلوماسيّة والمستشارين الثقافيّين والمراكز الثقافية الموزّعة على بلاد الدنيا، لتلك الصورة؟

نحن لا نقدّم شيئًا في أحسن الأحوال، فعادةً ما نستمتع بخدشها وإيذائها بمازوخيّة صارخة.
من المحزن أن تبدأ تلك التظاهرات بصراعات حول اقتسام الريع، كما يحدث هذه الأيّام بمناسبة تظاهرة قسنطينة، ثمّ تنتهي من دون أن تضيف شيئاً إلى الفعل الثقافي، أو أن تضخّ قليلاً من الدماء في جسد السياحة الميت في بلد بحجم قارّة.

من المحزن أن تنتهي بسرد أرقام طويلة عريضة وجوفاء عمّا أُنجز، ليتأكّد بأن القائمين على الثقافة يتعاملون معها وفق منطق إحصائي.

ومن المحزن أن نكتشف أن ذلك الهدف النبيل لم يكن سوى مجرّد كذبة كبيرة. قبل أيّام قليلة، أُقصيت الجزائر من احتضان كأس أفريقيا للأمم لعام 2017 وأُسندت التظاهرة الرياضية إلى الغابون، فخلّف ذلك صدمةً على المستويين الرسمي والشعبي، واكتشف الإعلام أنّ الجزائر فقدت هيبتها في أفريقيا، وأنّ صوتها لم يعد مسموعاً، حتّى على الصعيد القاري.

حدث ذلك بينما كنّا منشغلين، على "فيسبوك"، بالسخرية من دولة الموزمبيق "الشقيقة"، وبينما كنّا نتواتر ذلك القول المأثور: "ليس العيب أن تولد في أفريقيا وإنّما العيب أن تموت فيها"، وبينما كان الواحد منّا يُذكّر صاحبه، ليُغيظه، بأنه "أفريقي".

دلالات

المساهمون