مثل فلسطينيين حقيقيين

مثل فلسطينيين حقيقيين

15 مايو 2015
كازابلانكا بعد العدوان على غزة (تصوير: جلال مرشدي، 2014)
+ الخط -

نردّد أشعار محمود درويش النارية، أو نصغي لأغنية الأيقونة فيروز "سنرجع يوماً" أو ننشد أغاني أحمد قعبور ومارسيل خليفة. نقرأ قصيدة "القدس عروس عروبتكم" للشاعر العراقي مظفر النواب، ونغني أشعار أحمد فؤاد نجم بعد أن استمعنا إليها بصوت الشيخ إمام.

وفي وقت لاحق، نكتشف "فرقة الميادين"... تلك كانت أولى "طلقات القصف" النضالي التي تلقيتها في طفولتي الباكرة، وكنت لا أزال لم أفق بعد من خدر قصص لطفي المنفلوطي وجبران خليل جبران، وأغاني عبد الحليم حافظ.

كان شقيقي الأكبر، وهو ما يزال تلميذاً في الثانوية، يسرّب هذه "الأسلحة" المحظورة إلى البيت العائلي على شكل أشرطة صوتية مستنسخة. وبما أن الوقت كان غير الوقت، كنا، قبل الانتقال إلى مرحلة الاستماع والاستمتاع، نحرص على إغلاق الأبواب والنوافذ، ثم نتحلق حول آلة التسجيل، نسترق السمع إلى تلك الأصوات التي كانت تنبعث خفيضة (خشية تلصّص آذان الغرباء) وهي تمجّد الثورة وتتغنّى بالأمل وتزف الشهداء إلى حياة أخرى.

في منتصف ثمانينيات القرن الماضي، تكرّر الأمر، مع جرعة زائدة هذه المرة مرفقة بترديد جماعي بهيج، كنا نحرص على "إدمانه" في مقر شبيبة الاتحاد الاشتراكي في سيدي عثمان. وكانت - وقتها - أرواح شهداء مجزرة صبرا وشاتيلا ما تزال معلقة بين الأرض والسماء، وقبلها كانت لنا أرواح أخرى لشبان خرجوا راقصين في شوارع يونيو 1981 في الدار البيضاء، لكن فجأة نبتت لهم أجنحة في الأثناء، قبل أن يسقطوا برصاص الصيّادين.

في تلك الأجواء، كانت الرفقة تتكوّن من عدد من المناضلين الشباب، أبناء الأحياء المهملة والأسر الفقيرة، ممّن وجدوا أنفسهم منساقين، بإرادة مطلقة ومؤمنة، نحو تعويض متطلبات الحب الأول، حب المراهقة وبداية الشباب، بتلك الأشعار والأغاني والشعارات الحماسية الثورية التي ترتفع في ركب القتلى، فيما يشبه الإنشاد الصوفي المرتفع. ومن ثم، جاءت فكرتنا لإنشاء فرقة غنائية شبابية خاصة. أصبحنا، إذن، بين عشية وضحاها، نكتب أشعاراً، نلحنها ثم نقوم بتأديتها أمام جمهورنا الحزبي المحلّي، تماماً مثل فلسطينيين حقيقيّين.

في الجامعة كبُر الجرح، وزاد الإحساس بمعنى الظلم، وتعدّدت مفردات القهر والعزلة من جرّاء الحيف المجتمعي هنا والاحتلال هناك على حد سواء، حتى صارت قهوة النضالات المحلية لا يستساغ مذاقها، في اللسان كما في الوجدان، إلا عبر مزجها بالحليب الفلسطيني المر.

أربع سنوات في الجامعة كانت كافية لتحويلنا إلى مشاريع معتقلين، سواء عبر بوابة الوطن وظلمه اليومي المتفاقم، أو عبر الورقة الفلسطينية التي أربحت، للأسف الشديد، قطاع طرق كثيرين من الماء إلى الماء، بينما بقينا نحن أبناء الفقراء من المناضلين الشباب نردد شعاراتنا النارية الأثيرة - دون ملل أو خوف - في وجه ضباع وخنازير العالم.

اليوم، بعد كل هذا العمر، وعلى الرغم من تلك التسويات المخجلة، التي جرى بعضها تحت الجسر، صرنا أكثر يقيناً من أن القضية الفلسطينية لم تكن، في تقديرنا، "نحن الذين كنا قد قلنا للتو باسم الله في الدنيا"، مجرّد تنويع نضالي على وضع مغربي، لا أحد منا كان يطمئن إليه، بل كانت، وستبقى (مع فارق في الاستيعاب وفائض في الألم) انشغالاً يومياً نقيس به حرارة انتمائنا، ليس فقط لهذا الجسد العربي البائس الهش والمترهل، وإنما - أيضاً وأساساً - لروح الإنسانية العظيمة، تلك الروح التي ما تزال مؤمنة، إما بفائض من غباء أو بسذاجة نضالية وَرَمِية، بأن على هذه الأرض ما يستحق الحياة، رغم بعض التسويات التي تجري، من حين إلى آخر، وراء ظهور الشهداء أو في ليل العالم.

المساهمون