مكتبة الإسكندرية: حين يتحوّل التاريخ إلى بلاطة

مكتبة الإسكندرية: حين يتحوّل التاريخ إلى بلاطة

18 مارس 2015
مخطوط لكتاب قديم في الطب
+ الخط -

من المفترض أن تكون مكتبة الإسكندرية الحديثة إحياء للمكتبة التي كانت "منارة العلم في العالم القديم". لكننا لا نرى كثيراً من ذلك متجسّداً، خصوصاً حين يقوم هذا المشروع اليوم على البيروقراطية وادّعاء العلم من بعض القائمين عليه.

ليس هذا المقال سوى تعبير عن الذعر من متخصّص هاله ما رأى من علم كاذب في مشروع رقمي تابع للمكتبة، هو "المكتبة الرقمية للنقوش والخطوط". متخصّص ليست له أي أغراض غير التنبيه إلى حجم الأخطاء على أمل أن يجري تداركها.

بداية لا بد من التأكيد على فكرة المشروع الجيدة. فمسايرة التكنولوجيا، وتطبيق نظام الرقمنة على الوثيقة التاريخية أصبحا حاجة ماسة للمكتبات والمتاحف والمخازن في مصر والعالم العربي. وإن إتاحة المحتوى باللغة العربية لهو شيء مفيد للغاية ويحسب للقائمين عليه.

والمشروع، حسب الموقع الإلكتروني المخصّص له، من إنتاج مركز الخطوط ويسعى "لأن تكون المكتبة الرقمية للنقوش واحدة من أهم المكتبات الرقمية المتخصّصة في مجال النقوش والكتابات على شبكة المعلومات الدولية". غير أن العارف بتفاصيل الواقع يدرك أن "المكتبة الرقمية للنقوش والخطوط" تشتغل على كل شيء. فهي تضم، حسب تقسيمهم، النقوش المصرية القديمة والنقوش العربية والنقوش الفارسية والنقوش التركية والنقوش اليونانية.

سأترك اللغات المصرية والعربية والفارسية والتركية للمتخصّصين فيها، ليقولوا القول الفصل في تخصّصاتهم. وسوف أتحدّث فقط هنا عن "اللغة اليونانية القديمة"، مجال تخصّصي.

لقد وَجدتُ من الأخطاء ما هو صادم، وهي كثيرة لا يتسع المقال الحالي لعرضها. ولذلك سأكتفي بثلاثة أمثلة تبيّن أن القائمين على هذا الجزء من المشروع لا يفقهون شيئاً ويفتون في ما ليس لهم به من علم... أي أنهم "بلاطة" في اللغة اليونانية القديمة، وبلاطة في علم البردي، وهو العلم الذي كان يجب أن يدرسوه أو على الأقل أن يسألوا المختصين به، قبل أن يقدموا على فعلتهم هذه!

المثال الأول: العنوان في حد ذاته، أي "النقوش اليونانية"، يدلّ على جهل شديد (حتى باللغة العربية). هم يذكرون بأنهم يريدون لهذه المكتبة أن تصبح "أهم مكتبة متخصصة في مجال النقوش والكتابات". لكن النقش - كما يعرفه كل أثريّ - نقصد به حفراً غائراً على مادة من مواد الكتابة سواء كان حجراً أو معدناً أو خشباً أو غيره. إلا أن معظم المعروضات، على قلتها، من البرديات. والبرديات اليونانية كما أعرفها، ويعرف غيري من المتخصّصين، غير منقوشة بل مكتوبة بالقلم!

المثال الثاني: في ما يتعلق بتصنيف المعروضات؛ وهي معروضات من المفترض أنها موجهة لقطاع الباحثين المصريين مثلي. تذكر الصفحة الرئيسية للموقع ما يلي: "وقد حرص القائمون على هذا المشروع على أن يُخرج الموقع الإلكتروني المكتبة الرقمية للنقوش والخطوط في شكل سلس وسهل الاستخدام؛ لتمكين أكبر عدد من الباحثين من الاستفادة بنفائس النقوش الكتابية الأثرية والاستزادة من الصور والمراجع الخاصة بكل نقش على حدة". لكن الموقع كان خالياً من أبسط قواعد التصنيف الأثري لمواد الكتابة.

وهنا، أستعرض أكثر الأمثلة إثارة للضحك - والبكاء في الوقت نفسه - وهو عنصر "الفنون والنحت". تحت هذا العنصر يقرأ المرء من ضمن ما يقرأ من العجائب، فئةً كاملةً عنوانها: "بلاطة". وإذا ما ضغطت على "بلاطة" تكتشف معلومة جديدة وهي أن "البلاطات (المزعومة) فئة عامة لفئة أخص هي الألواح التي تحمل نقوشاً"، وهذه الألواح هي في نهاية المطاف "نقوش رخامية". يعني "علبة بداخل علبة بداخل علبة"، وفي الآخر كما في البداية ليس في العلبة سوى "جهل مطبق"، وكلام لا يمكن أن يصدر عن متخصّص أو حتى طالب علم في عامه الدراسي الأول في كلية الآثار.

إن لفظ "بلاطة" لفظ عامي لا معنى له في علم الآثار. وكل الفئات المزعومة المشار إليها ما هي إلا "ضحك على الذقون". فكما أوردتُ، فإن "النقش هو كل ما نقش على مادة للكتابة، وإذا كانت مادة الكتابة حجراً ذُكر نوع الحجر وقيل بشكل مباشر أن مادة الكتابة "نقش رخامي" مثلاً، وليس "بلاطة"!

ثالثاً: الأخطاء العلمية لا حصر لها أيضاً، خصوصاً في ما يتعلق بالنشر العلمي للقطع المعروضة. كثير من القطع لا يوجد لها نصّ، وإن وُجد تراه معروضاً بشكل خاطئ تماماً، ولا توجد له ترجمة عربية، وإن وُجدت فهي ترجمة إنجليزية مأخوذة ليس عن النشر العلمي للقطعة الأثرية بل من كتاب غير متخصّص في علم البردي.

توضّح هذه الأمثلة بما لا يدع مجالاً للشك أن هذا المشروع ليس كما يدّعي أصحابه. هذا الموقع وهذا المشروع، كلاهما محرج ومخزٍ لكل متخصّص في مصر والعالم العربي. وهو بكل بساطة يعبّر عن "جهل مطبق" يلبس لباس العلماء ويتخفى وراء جلالهم، فتتحوّل النقوش والمواد التاريخية إلى "بلاطة"!


* باحث من مصر

المساهمون