موسيقى ثورة يناير: حالة حصار

موسيقى ثورة يناير: حالة حصار

28 فبراير 2015
(حمزة نمرة)
+ الخط -

تعيش الساحة الفنية المصرية على وقع تجاذب محوره الفنان حمزة نمرة (1980) والقرارات المتضاربة لنقابة المهن الموسيقية بشطب عضويته ثم التراجع عن ذلك. وفي أواخر عام 2014، صدر قرار بمنع بث أغاني نمرة في الإذاعات المصرية. الفنان الذي لُقِّب سابقاً بـ "مطرب الثورة" (مثل مجموعة من أبناء جيله) يجد نفسه اليوم في قلب رحى الثورة.

التضييقات التي يمرّ بها نمرة، تكشف عن منطق شقّ من المشهد الفني ما زال يعتقد بأن قرارات كهذه تهدّد فناناً في هذا الزمن. يوجد من لا يعرف أن منع أغان من البث الإذاعي، لم يعد منعاً بالمعنى الذي يفهمونه. ثمّ، ماذا يعني شطب عضوية فنان من نقابة؟

في كل هذا، من المستفيد؟ قطعاً ليس الفن. إنما هي ألاعيب تقحم الجيل الموسيقي الذي حبلت به الثورة في معارك صغيرة، عسى أن تعيق نموّه. وما يحصل يبدو مثل حرب مركبة: حرب أجيال وحرب مواقع وحرب امتيازات وحرب بالوكالة. وهي حرب تسرّب إلى معاركها العديد من المشاكل الخارجة عن عالم الفن، وتراكمت عليها أبعاد أخرى شخصية وسياسية واجتماعية.

موسيقى ما بعد الثورة في مصر، برزت كموجة عالية ثم تضاءل مدّها بمرور الوقت. هناك من يصرّ أن يفرض على الجميع استنتاجات كالعزوف الجماهيري أو نضوب المواهب. والحقيقة أن مسار بلد كامل قد تمّ تحويل وجهته مثل نهر غيّرت مجراه السدود.

في ميدان التحرير، يناير 2011، برزت أسماء حازم شاهين ومصطفى سعيد وحمزة نمرة. برزوا مع آخرين في الميدان وفي بعض وسائل الإعلام، وكانوا تلبيةً لحاجة مجتمعية تبحث متلهفةً عن طرح موسيقي مغاير يعبر عن اللحظة وما يحاصرها من تزييف.

في السنتين الأولى والثانية بعد 25 يناير، قفز كثيرون إلى الركح الثوري بخفة ومهارة وجدارة؛ مثل ياسر المناوهلي أو رامي عصام. تعددت الفرق والأنماط الموسيقية. وأثث كل واحد من هؤلاء بروحه الخاصة واجتهاده زاوية من مشهد الأغنية الجديدة. هكذا، بدا وكأن مصر قد ربحت في شهور قليلة مشهداً موسيقياً، جديداً بالكامل، يبشر بانتقال كوبرنيكي في المجال الفني.

ما الذي حدث فيما بعد؟ لقد نشطت في مصر ميكانيزمات الثورة المضادة، في كل المجالات. وكانت الأغنية الجديدة في الطريق المؤدية إلى المواقع القديمة. فلا بد أن تدوسها عجلات الهيمنة، وسيكون ذلك بطرق ناعمة في مرحلة أولى.

أتى حينٌ من الدهر تزاحم فيه الجميع على إنتاج الأغنية الثورية، حتى إن نجوماً غيّبتهم الثورة قد عادوا من بوابتها. الجميع أصبح يغني لـ "25 يناير" وللثورة المجيدة، بعد أن كانت كبريات المؤسسات الإعلامية قد انحازت، في وقت ما، لأغاني شيرين وعمرو دياب وتامر حسني الجديدة.

في موقع آخر من المعركة، تتدفق تقييمات "جهابذة" الفن الموسيقي الذين لا يعجبهم الجيل الجديد، كقول حلمي بكر: "هل ثورتنا أميركية لكي يمسك كل شخص بالغيتار ويغني لها؟". وأقحمت التجارب الجديدة في مقارنات مع منجز "جيل العمالقة" في ثورة 1952.

الصحافة مرّرت مواقف محددةً من الجيل الجديد. فبعد خلط الحابل بالنابل، سنرى في الصحافة المصرية عناوين من قبيل "أغاني 25 يناير.. بضاعة أتلفها الهوى والمصلحة وركوب الموجة". وهكذا حوصر مدّ الجيل الجديد.

لا يخفى على أحد أن ظاهرة الشباب الموسيقي الجديد قد ساهمت القنوات الفضائية المصرية في نموّها وجماهيريتها. ففي وقت ما، تهافت كبار مقدمي البرامج المصرية على استدعاء رواد "الأغنية الجديدة". كل ذلك قبل أن تختلف ميولات القنوات وحساباتها فلم تعد محتاجةً لهؤلاء.

عموماً، لا يعتقد أبناء هذا الجيل أنهم مهضومو الحقوق في ظل الوضع الجديد؛ فقد ترعرعوا في الهامش، وتركزت رؤاهم الفنية وصقلوها هناك، كما منحتهم التكنولوجيات الحديثة فضاءات جديدة لإيصال أصواتهم.

ما يحدث مع حمزة نمرة، قد يكون ورقةً أخرى تلعب اليوم ضدّ هؤلاء. ورقة إنهاكهم في معارك جانبية حيث تستثمر الكثير من التشابكات، كأن يُتهم الفنان حمزة نمرة بأنه "إخواني" أو أنه يقدّم فناً معارضاً للنظام، وبالتالي "لا يشرّف الفنانين".

في هذا الجيل ما يزعج وما يربك، وفي هذا الجيل ما يفرح. لقد اقتحم، في ظرف خاص، وبروح مختلفة مشهداً فنياً نخرته سطوة العلاقات والنجوميات المتضخمة. جيل يعبر إلى الحياة، فلا بدّ أن يناصبه العداءَ جسدٌ مريض.

معركة كهذه لا تنتهي بفائز ومنتصر. قد تشحذ همم الموسيقيين الجدد، وقد تُهدر قدرات مصرية أثبتت أنها قادرة على إلغاء المسافة بين الأغنية والناس. قد تطوّر ملكة التمييز لدى الشعب فيعرف معادن الفنانين الحقيقيين. وها إن ضربات السنين الأخيرة قد ألقت بعدد من عناصر الجيل الجديد خارج المضمار بينما ظل البقية ثابتين.

لقد انتشروا بين صفوف المعتصمين في الميدان هاتفين ومنشدين، وقذفتهم أيام الثورة ليصعدوا درجات ويقارعوا قمماً فنية، وهاهم يقارعون شيئاً من القمع وكثيراً من العقليات القديمة. وتلك ضريبة بسيطة للحلول في ضمير الناس. لكن، من يستطيع دفن الفن حيّاً؟

المساهمون