المركزية الغربية: مؤشرات لنهايات احتكار الماضي

المركزية الغربية: مؤشرات لنهايات احتكار الماضي

04 ديسمبر 2015
("البيت الذهبي" لـ إيمان عيسى / مصر)
+ الخط -

نحن اليوم على أعتاب عصر جديد، لم تعد فيه أوروبا محور الحياة لوحدها، بل ها هي تتحوّل إلى مجرد جزء من الحياة كغيره من الأجزاء. قد يكون هذا الكلام سابقاً لأوانه، لكن ملامحه اليوم تتشكّل على أصعدة عدة، علمية وثقافية وسياسية واجتماعية، ولا فضل في ذلك إلا إلى صيرورة الزمان والتحولّات الاجتماعية ووسائل الاتصال الحديثة وعلى رأسها الإنترنت.

لعلّ أهم مظهر من مظاهر هذا التفكّك الذي أطلّ علينا في الفترة الأخيرة، هو الأزمة التي تتعرّض لها المراكز المنتجة للمعرفة التي كرّست المركزية، ومن بعد ذلك جعلت من الماضي حكراً على أوروبا، حيث جرى تكريس منابع الفكر الأوروبي (اليونان وروما) كمنابع للفكر العالمي من جهة، ومن أخرى اعتبرت هذه المنابع إرث الأوروبيين وحدهم. لعل هذا الاحتكار هو مولّد الأزمة التي تعصف بكل العلوم الإنسانية بشكل عام في الجامعات الأوروبية والأميركية.

تتجلّى هذه الأزمة في ما يخص احتكار الماضي في إلغاء الكثير من كراسي الأستاذية في الدراسات اليونانية واللاتينية، سواء كان ذلك لغة أو أدباً أو تاريخاً أو آثاراً، أو غيرها من التخصّصات التي طالما ادّعت هذا الإرث اليوناني اللاتيني إرثاً وأساساً لأوروبا وأهلها.

ولقد تتبّع بعض الباحثين هذه الظاهرة، وقالوا إن معدلات إلغاء هذه الكراسي أكبر من معدلات التغيّرات المناخية. أضف إلى ذلك عزوف المجتمع الأوروبي متمثلاً في طلاب المدارس الثانوية عن دراسة اللغتين اليونانية واللاتينية كما في السابق.

ينذر هذا باختفاء هاتين اللغتين من المدارس والجامعات الأوروبية في القريب العاجل، إذا ما استمر هذا المعدل على ما هو عليه الآن. وعلى الرغم من أن معظم الدراسات التي أشارت إلى هذه المعدلات الخطيرة تركّزت في الأساس على الولايات المتحدة الأميركية وألمانيا، إلا أن هذا الأمر يمكن ملاحظته في العديد من دول أوروبا على السواء، لكن بمعدلات متباينة ولكنها متقاربة في حدة تناقصها السريع.

أما في الوطن العربي، فقد ادّعى كثير من الباحثين أن مثل هذه الظاهرة لا وجود لها أصلاً في هذه المجتمعات على أساس أن مجتمعاتنا العربية لم تعرف التقدم الذي شهدته العلوم الإنسانية والتخصّص الدقيق الذي عرفته أوروبا والغرب عموماً، خصوصاً في مجال الدراسات اليونانية واللاتينية. وعليه، لم تكن لتتراجع لأنها أصلاً لم توجد.

الخطأ الذي وقع فيه هؤلاء الباحثون نابع من المركزية الأوربية ذاتها، بتجاهلها لغيرها من الشعوب والحط من قدرة لغاتهم ومعارفهم، فلا علم إلا ما كان أوروبيّاً ولا لغة إلا ما كانت أوروبية.

ولطالما قيل إن الشعوب العربية (وغيرها من الشعوب غير الأوروبية) لم تعرف الإنسانيات لعدم التمكّن من أصولها الكلاسيكية (يقصدون اللغتين اليونانية واللاتينية وآدابهما) سواء كعلوم أو كفلسفة تنادي بحرية الإنسان وكرامته، بغض النظر عن عرقه ودينه ولونه وأصله، وهذه بالطبع خرافة لا صحة لها.

إن النأي عن اللغتين اليونانية واللاتينية في الغرب، يهدد الأقسام التي تهتم بالماضي، خصوصاً مواد التاريخ والآثار، لكن انعكاساته في العالم العربي أخطر؛ لأن هذه الأقسام تدور في فلك المركزية الأوروبية، وتردّد المقولة المغلوطة نفسها عن التاريخ والآثار واللغات والآداب القديمة ومحورية اليونان وروما.

في الحقيقة، إن ما يتهدّد الآثار في وطننا العربي من تدمير وسلب ونهب وإهمال ليس إلا امتداداً لاحتكار المستعمر السابق للماضي واحتقاره لشعوبنا وللغتنا، فلا هذا ماضينا (من وجهة نظره) ولا ما ينتج من معرفة عنه بلغتنا معرفة معترف بها، ثم يأتي من يسأل "لماذا تُسرق الآثار أو تُدمّر أو تُهمَل؟".

إن المركزية الأوروبية المطبوعة في الكتب منذ نشأة التخصّصات التاريخية حتى اليوم، لطالما سوّقت التراث اليوناني واللاتيني وكأنه حكر على أوروبا من دون الناس. وللأسف، فإننا في الوطن العربي بلا استثناء قبلنا بما قيل لنا، ولم نُعمِل عقولنا ونسينا أو تناسينا شيخ المترجمين عن اليونانية إسحق بن حنين، وعلماء مثل الكندي والفارابي وابن سينا وابن رشد، وغيرهم كثيرون ممّن تفاعلوا مع التراث اليوناني بشكل لا مثيل له حتى اليوم.

وحتى حين ننظر إلى الأدب اليوناني، وهو الأدب الذي لم نعرف منه الكثير في تعاملنا الأول مع التراث اليوناني، نظراً إلى اعتزاز العرب بلغتهم وشعرهم، ها نحن اليوم نملك ترجمة البستاني لإلياذة هوميروس، نظماً بالعربية منذ أكثر من مائة عام ونثراً بدون لغة وسيطة، على يد أحمد عثمان، منذ نيّف من السنوات.

بل أكثر من ذلك، إن أدبنا الحديث قد تأثر بهذه الأعمال، فنرى على سبيل المثال أوديب ملكاً في مسرحيات عربية لعلي أحمد باكثير وتوفيق الحكيم. الخلاصة أن التراث اليوناني واللاتيني لم يكن أبداً حكراً على أوروبا، سواء كان هذا التراث تراثاً فلسفياً أو علمياً أو أدبياً أو أثرياً.

إن ما فعلته داعش من تدمير لآثار تدمر، أو قطع رأس الأثري السوري خالد الأسعد، هو أيضاً نتاج لهذه المركزية التي ادّعت لنفسها هذا التراث فحملته - على حين غفلة من الناس - إلى متاحف وجامعات أوروبا وأميركا، إما بالمال أو الحفائر، أو بغيرها من الطرق المُقننة أو غير المقننة أثناء وبعد فترة استعمار واستغلال هذه المناطق التي دامت عقوداً، ثم ما لبثت أن ادّعت أو حاولت أن تشرّع لنفسها حق الاستئثار بالماضي الذي اشتركنا فيه مع أجداد لهم فنوا وبقينا نحن؛ وكأن الماضي الذي اشتركنا فيه مع الروم (الإمبراطورية البيزنطية) حرباً وسلماً ومع الصليبيين (أوروبا اللاتينية) ليس لنا فيه نصيب.

وكأننا دخلنا على من سكنوا مصر والشام والعراق والمغرب من قبلنا دخلة لم تبقِ ولم تذر من آثارهم شيئاً، وبهذا كان لزاماً على أصحاب الحضارة اليوم أن يحافظوا على آثار حضارة الماضي وينقذوها من براثننا.

وللأسف، استمع إليهم من بيننا من استمع، وتواطأ وسرق وقتل ودمّر وهرّب ما يمت لهذا الماضي بصلة من شجر أو حجر أو إنسان يحاول أن يحافظ عليه. وبهذا، أثبت مقولة من قال "أسوأ ما فعله الرجل الأبيض أنه جعل الرجل الأسود يكره نفسه".

بدأ احتكار الماضي يتحلّل اليوم، وعلينا أن ننتبه إلى أننا معرّضون للوقوع في الشرك نفسه باحتكارنا لماضينا وادّعاء أنه ملكنا، وليس لأحد من الناس نصيب منه. إن أول سبيل للخروج من المركزية الأوروبية في هذا المجال المعرفي هو الاعتراف بأننا نحن البشر شركاء في الماضي والحاضر والمستقبل، هكذا كنا منذ ظهورنا جميعاً على مسرح التاريخ والجغرافيا.


* باحث وأكاديمي مصري مقيم في ألمانيا


اقرأ أيضاً: اللغة العربية.. ساقية العلوم المُعطلة

المساهمون