حجر مؤاب.. قصة اختلاق حضارة

حجر مؤاب.. قصة اختلاق حضارة

18 ديسمبر 2015
(مشهد من الكرك اليوم، تصوير: اس. بيتيكون)
+ الخط -

في تاريخ المكتشفات الأثرية في الأراضي الواقعة إلى الشرق من نهر الأردن، شمال الكرك تحديداً، يحتلّ الحجرُ المسمى في الأدبيات الغربية "حجر مؤاب" مكانة مركزية بوصفه حجراً يحمل نقشاً كتابياً يتحدّث عن أحداثٍ ذات صلة برواياتٍ توراتية.

يقف هذا الحجر الآن، أو شظاياه التي جُمعت من حطامه، بجوار طبعة مستنسخة عنه من الورق غير مكتملة، في أحد زوايا متحف اللوفر الفرنسي منذ أن نقله إليه المستشرق الفرنسي شارل كليرمون – غانيو في العام 1873.

انطلقت القراءاتُ الأولى لهذا النقش المكتوب بحروف كنعانية ولغة يطلق عليها العلماء الغربيون اسم السامية الغربية، من فرضية أنه يتحدّث عن حروبٍ بين صاحبه الذي يطلق على نفسه اسم الملك ميشع إبن الاله كيموش، وبين ملك "إسرائيل" عومري وابنه، وقعت في فلسطين التاريخية، ومن هنا اعتبر الحجرُ نصاً "تاريخياَ" يؤكد المرويّات التوراتية.

هكذا تُرجم النقشُ إلى العبرية، ورُسمت جغرافية لأحداثه تتطابق مع المرويات التوراتية كما يفهمها العلماء الغربيون، وبلغ من شدة تمسك قاريء مثل جون د. دافس بهذه الفرضية في العام 1891، أنه طعن بمصداقية النقش في المواضع التي ناقض فيها المرويات التوراتية بينما اعتبره د. أ . س. يهودا ملفَّقاً من أساسه.

في السنوات اللاحقة، وفي سياق نقد الرؤيا اللاهوتية التوراتية الثابتة التي ظلت طيلة أكثر من نصف قرن تحاول تطويع المكتشفات الأثرية في شرق الوطن العربي لتروي ما تقوله الرؤيا اللاهوتية التوراتية، ظهرت قراءاتٌ مختلفة لهذا النقش أبرزها قراءة كمال الصليبي (1985) وتوماس تومبسن (1998).

قراءة الصليبي هي الأكثر أهمية، لأنه يجيد العربية والعبرية ويعتمد على فقه ما تسمى باللغات السامية وعلى معرفته بجغرافية المنطقة العربية. ولهذا استطاع أن يكشف بسهولة أخطاء قراءة اللاهوتيين الغربيين في عدة مواضع لأسماء الأماكن وجغرافيتها، ونقض حتى تسمية الحجر المنسوب إلى ما يسمى "مؤاب" في شرق الأردن حسب فرضياتهم، وأظهر أن أسماء قرى واردة في النقش مثل "ءم يب" و"ديبن" و"هدبء" هي ذاتها القرى المتجاورة في مرتفعات الطائف الحجازية؛ أي " أم الياب" و"الديبان" و"هدبة".

إضافة إلى أن هؤلاء اللاهوتيين حذفوا من الترجمة كلماتٍ واضحة الدلالة على "البقر" و"الماعز" و"الأغنام" لأنهم أخفقوا في التعرّف عليها. كل هذا وغيره، قاد الصليبي إلى القول أن حروب صاحب النقش لا يمكن أن تفسّر جغرافياً في إطار فلسطين وشرق الأردن، بل في إطار غرب الجزيرة العربية، وهو ما يتّضح من قراءة النقش ذاته قراءة سليمة.

فميشع حسب ما يروي كان ملك قرية "أم الياب" حيث أملاكه الأصلية، واضطر للجلاء عنها بعد أن عانى هزائم على يد ملك قرية أخرى هو عومري ملك اسرائيل وابنه، فأقام لنفسه ملكاً جديداً في شرق الأردن، وهناك نصب حجره الذي نقشت عليه مآثره.

من جانبه، أنكر تومبسون أن تكون للحجر قيمة كمصدر لدراسة تاريخ من يسمون زعماً "المؤابيين" و"الإسرائيليين"، وانتقد تحت عنوان "نص يثبت صحة نص" عادات البحث الكسولة التي تعيد صياغة روايات القصاص القدماء كبديل عن البحث التاريخي"، واعتبر تومبسون في نقاش مدقق أن هذا النقش ينتمي إلى تراث القص الأدبي عن ملوك الماضي وتمجيدهم، بما يحفل به هذا التراث عادة من أخيلة ورغبات ومعتقدات أسطورية.

رويت قصة اكتشاف الحجر بطرقٍ وأساليبَ مختلفة، بعضها يشبه قصص أفلام هوليوود السينمائية، وبعضها يشبه قصص الإشاعات، إلا أن العودة إلى مارواه صاحب الاكتشاف الراهب الألماني ـ الفرنسي ف. أ. كلين من ستراسبوغ في مقاطعة الألزاس، وما رواه منافسوه من فرنسيين وانكليز، يمكن أن يكون هو جوهر القصة.

يروي كلين هذا، أنه خلال رحلته في العام 1868 عبر البلقاء شرق الأردن، نزل برفقة "سطام" ابن شيخ بني صخر "فندي الفايز" ضيفاً على قبيلة بني حميدة البدوية وخيامها بالقرب من ذبيان، وهناك علم أن حجراً يحمل نقوشاً موجود في خرائب ذبيان، فثار فضوله، وذهب لرؤيته. فوجد أمامه حجراً بازلتياً أسود بطول أربعة أقدام وعرض قدمين، نقشت عليه كتابة.

ولأنه غير ذي خبرة بالكتابات الشرقية القديمة، لم يستطع تحديد مدى أهمية الحجر، واكتفى بأخذ قياسات له ورسمه في دفتره وأحصى سطوره (33 سطراً)، واستنسخ بضع كلمات من بضعة سطور عشوائياً. وحين عاد إلى القدس، مقر عمله كمبعوث من الكنيسة الأنغليكانية طيلة عشرين عاماً، أخبر قنصل اتحاد الشمال الألماني المدعو جي. هـ. بيترمان باكتشافه بحضور ثلاثة أصدقاء.

ولأن القنصل كان خبيراً باللغات الشرقية تبيّن من الكلمات المستنسخة أهمية الحجر الكبيرة. فقام بالكتابة إلى متحف برلين سائلاً إن كان يهمهم أمر شراء الحجر بمبلغ يعادل 400 دولار، فجاءته الموافقة، وعندئذ طلب من أصدقائه الثلاثة كتمان الأمر، إلا أن أحدهم كما عُرف في ما بعد كان قد أفشى سرّه لشخص في الإرسالية اليهودية، هو د. جي. باركلي. وقام هذا من جانبه بإبلاغ المستشرق الفرنسي كليرمون الذي سيدخل المسرح ويتنافس مع الألمان للحصول على الغنيمة.

وبدأ القنصل الألماني العمل؛ اتصل بشيخ بني صخر طالباً مساعدته في الحصول على الحجر، إلا أن هذا أخبره أنه لا يستطيع مساعدته، إذ لا سلطة له على بدو ذبيان. فأرسل مدرّساً عربياً هو سابا قعوار إلى بدو ذبيان الذين يعرفهم، وعاد هذا بخبر أنهم رفعوا السعر إلى 4000 دولار. فتحرّك القنصل الألماني على صعيد آخر؛ كتب إلى برلين قائلاً أن الحجر لا يمكن الحصول عليه إلا بمساعدة من السلطات التركية.

وببعض من الاتصالات الدبلوماسية حصل السفيرُ الألماني في اسطنبول على رسالة من الصدر الأعظم إلى باشا القدس تفوّضه نقل الحجر إلى الألمان، ولكن لأن أراضي شرق الأردن كانت خاضعة لسلطة باشا نابلس، لم يستطع باشا القدس تنفيذ الأمر.

خلال ذلك جرت مفاوضاتٌ إضافية بين قعوار وبدو ذبيان تكللت باتفاق مكتوب، إلا أن صعوبة جديدة برزت حين وقف شيخ قبيلة العدوان عقبة في الطريق ورفض أن ينقل الحجر عبر أراضي قبيلته، فعاد قعوار، مبعوث الألمان، إلى القدس خاوي الوفاض مرة أخرى في تشرين الثاني/ نوفمبر 1869.

هنا، دخل باشا نابلس على الخط بعد حلّ إشكال الصلاحيات، وطلب من بدو ذبيان تسليم الحجر. وجاء الجواب بأن قام هؤلاء بتعريض الحجر لنار حامية ثم صبوا عليه ماءً بارداً لتفتيته، إما لكراهيتهم تسليمه لباشا نابلس الذي أغار عليهم في السنة السابقة، أو لأنهم كما يظن بعض الغربيين اعتقدوا أن في الحجر كنزاً مخبوءاً، أو أن له قيمة سحرية، حين رأوا صراع الغربيين وجهودهم المحمومة للحصول عليه، وتوزّعت الشظايا بين الخيام.

من المعتقد الآن أن سبب تعقد أمر الحصول على الحجر جاء بسبب تدخل الفرنسي كليرمون. فقد قام هذا بارسال مبعوثين إلى بدو ذبيان بعد أن علم بوجود الحجر، وفق رواية المساح العسكري البريطاني تشارلز وارين، عن طريق الراهب باركلي في ربيع العام 1869. ومن الذين أرسلهم كليرمون خزاف فلسطيني يدعى سالم القاري الذي سيكون له في ما بعد دور في دراما تلفيق وجود حضارة باسم "حضارة مؤاب"، وآخر اسمه "يعقوب كرفاسة"، لاستنساخ النقش طباعة بقالب مادة لينة وعرض ثمن أعلى للحجر.

وبالفعل حصل الفرنسي على نسخةٍ لسبعة سطور صنعها القاري، وعلى نسخة مهلهلة صنعها "يعقوب" على عجل، إذ نشب خلال عملية الطباعة شجارٌ بين أفراد بني حميدة، تضاربوا فيه، فانتزع "يعقوب" قالب الطباعة قبل أن يجفّ وفرَّ هارباً مع جرح تسبّبت به طعنة رمح في ساقه. وهذه الطبعة هي التي ستكون دليل كليرمون لإعادة تجميع شظايا الحجر التي سعى وراءها، هو والإنجليزي وارين، واستطاعا شراءها من البدو بعد أن فقد الألمان اهتمامهم بالحجر حالما علموا بتحطيمه.

وبهذه الطريقة حصل كليرمون على قطعتين كبيرتين و18 شظية صغيرة تتضمن 613 حرفٍ من ما يقارب 1000 حرف هي حروف النقش الأصلي، وأضاف إلى مجموعته 18 شظية أخرى تنازل عنها صندوق استكشاف فلسطين البريطاني بعد سنة، فأصبح يمتلك ثلثي النقش الأصلي، أضيفت إليها شظية تبرعت بها آنة ابنة عالم يدعى شولوتمان. وهكذا فإن ما يسمى "حجر مؤاب" الموجود في اللوفر الآن يتكون من ثلثي النقش الأصلي، وثلثه الباقي مجرد صورة مستنسخة.

إذا كان التنافس الألماني ـ الفرنسي لعب دوراً في تعقيد عملية الحصول على الحجر سليماً، فإن هذا التنافس سيلعب دوراً أكبر في حدث أصبح يدعى في تاريخ علم الآثار "تلفيق حضارة كاملة"، أي تلك التي تدعى حضارة "مؤاب".

تبدأ هذه الدراما بدخول تاجر عاديات أثرية بولندي على خط الاهتمام بالحجر يدعى موسس فلهلم شابيرا، ومساعده الخزّاف سالم القاري. والمعتقد أن هذا التاجر الذي أنشأ دكان عاديات في القدس لبيع عاديات للسواح في العام 1862، كان مشاركاً في المفاوضات بين ممثلي الألمان والفرنسيين والبريطانيين خلال تنافسهم للحصول على الحجر. وما أن انتهى الحجر إلى شظايا بيد الفرنسيين، حتى بدأ "شابيرا" باختلاق عددٍ هائلٍ من العاديات "المؤابية".

اختلق تماثيل أشخاص من الطين، ورؤوساً بشرية، وأوعية، وقطعاً تصوّر مشاهد جنسية، وكلها تحمل كتاباتٍ مستنسخة عن "حجر مؤاب". بل ونظم حملاتٍ إلى ما أصبح يعتقد خطأ أنها "أرض مؤاب" حيث كان مساعدوه من البدو يقومون بدفن المزيد من العاديات الأثرية الملفقة، ثم يصار إلى التنقيب واستخراجها بوصفها "مكتشفات".

وبدأ بعض "العلماء" يقيمون على أساس هذه الآثار المُلفّقة صروحَ نظريات عن هذه "الحضارة" الجديدة. وبلغ الهوسُ والتنافس حدّ أن الألمان كانوا أول من اندفع لشراء ما لفقه شابيرا قبل أن يصل إليه منافسوهم الفرنسيون. فاشترى متحف برلين وحده 1700 قطعة "أثرية" ملفقة بأثمان باهظة، وفعل الأمر نفسه أصحاب مجموعات خاصة، من أمثال العسكري البريطاني هوراشيو كيتشنر.

ولكن الشك سرعان ما بدأ يتسرّب إلى أذهان عدد من الخبراء، ومنهم الفرنسي كليرمون الذي قام بتحريات خاصة أوصلته إلى استجواب الخزاف القاري، وعن طريقه عرف الناس الذين كانوا يزوّدونه بالطين الذي كان يستخدمه لصناعة آثار "حضارة مؤاب" المزعومة.

نشر كليرمون نتائج تحرياته في صحيفة لندنية معلناً أن هذه العاديات التي يبيعها شابيرا ملفقة، وهي النتيجة نفسها التي توصّل إليها علماء آخرون من أمثال إميل فريدرش كاوتسكي وآلبرت سوسن.

بالطبع، دافع الملفق شابيرا عن "أصالة" عادياته بضراوة، ثم اضطر للاعتراف بالتلفيق بعد تزايد الأدلة، إلا أنه جعل سالم القاري كبش فداء، وزعم أن هذا الأخير هو الذي كان يخدعه، أما هو فهو ضحية بريئة .

واصل هذا الملفق تجارته، وكان آخر ما لفقه لفائف جلدية تحمل نصوصاً توراتية قديمة زعم أنه اكتشفها بالقرب من البحر الميت، وعرض بيعها للمتحف البريطاني بمليون جنيه استرليني. إلا أن بعض العلماء قام بفحصها وأعلن إنها قطع ملفقة، ودخلت قضية هذه اللفائف التاريخ تحت عنوان "فضيحة توراتية". واختفت هذه اللفائف طيلة سنتين، ثم ظهرت في مزاد "سوثبي" حيث بيعت بعشرة جنيهات استرلينية.

وانتهى المطاف بهذا الملفق البولندي إلى الانتحار في غرفة فندق في روتردام في العام 1884، ولا تزال عادياته الملفقة موجودة في متاحف ومجموعات خاصة، إلا أن من النادر أن يتم عرضها. كما لا يزال ذكر هذه الحضارة المزعومة يرد في منشورات سياحية، ويتغنى بعض الشعراء العرب المغفلين بشخصية "المؤابي" و "مؤاب" .. وما إلى ذلك.

المساهمون