حديقة النوم المعلّقة

حديقة النوم المعلّقة

11 نوفمبر 2015
(تجهيز لـ جيزون دي كايرس تايلور/ بريطانيا)
+ الخط -

هدر. التاريخ لا ينتظرُ النيامَ حتى يستيقظوا، وإنما يكتبه المستيقظون وحدهم. إذ ما الذي يستحق التسجيل في ساعات النوم لكي يجعل كتب التاريخ تضعها في حُسبانها؟

ساعاتٌ زائدة لا نفع منها.. لكن هذه الساعات لا تذوي أو تتضاءل كأي شيء نافل، وإنما يزداد عددُها ليلةً وراء ليلة، لتصبح حشداً. فعلى النقيض من أي حشد آخر، لا تستطيع تلك الساعات أن تكتسب وزناً يُذكر مهما زاد عددُها، فتبقى دائماً هائمةً في الخلفية، بلا تأثير، ومن دون أن يلتفت إليها أحد، كسرٍّ مُهمل يعرفه الجميع دون الحديث فيه.

وهكذا ظَلّ النوم على مرّ السنين مبثوثاً فوق صفحات التاريخ كهباء منثور. قد يُختَزَل على شكل حلم هنا، أو رؤيةٍ هناك، وما عدا ذلك يبقى خارج تلك الصفحات، روحاً تهيم في كل ما لم يُكتب فيها. الإجابة التي يقدّمها النوم على هذا الاستبعاد هي التكرار.

وككل الأشياء الأصيلة، يُعيد النوم الكرَّة ليلةً وراء ليلة، ليخلق من التكرار قانوناً. فيرجع إلينا كل مساء بكامل سلبيته وضياعه وفشله، ويكرّر إصراره على الهدر المستمر، يكرّر انتماءه إلى كل مآسي الماضي.

النوم المطرود من التاريخ لا يقدّم ولا يؤخر، لا ينتج ولا يراكم، وبالرغم من ذلك، فهو الحدُّ الذي لا يستطيع سهمُ التقدّم أن يتخطَّاه.

تُرى ماذا يمكن لإنسان التاريخ أن يفعله أمام هذا الهدر اليومي؟ ماذا يمكن أن يفعل بكل ساعات النوم تلك؟ يقلّصها قدر الإمكان؟ ينساها تماماً فور استيقاظه؟ يكبسها فوق بعضها ويجعل منها رقائق ثم يأكلها؟ يسير وسطها كما يسير وسط أوراق الخريف؟ يترك نفسه لها؟ ماذا يفعل؟!


رقّة الراديكالية. الأجساد التي تسير في المكان العام هي أجساد متأهبة، يسري فيها قدر مضبوط من التوتر، يسمح لها بالتجاوب مع ما حولها، وأخذ رد الفعل المناسب. والفعل الراديكالي الذي يحدث في المكان العام بحاجة إلى أجساد أكثر توتراً واحتشاداً لمواجهة المخاطر التي قد تعترض طريقه.

فهي أجساد دخلت في صدام مفتوح مع السلطة من أجل إعادة تشكيل المكان العام. ومن بين كل أشكال الفعل الراديكالي، يُشكل الاعتصام نوعاً فريداً لاحتوائه على تعقيد بالغ، فهو من ناحية يجسّد ذروة الحركة الاحتجاجية وأكثر لحظاتها خطورة، لأنه يأخذ زمام المبادرة، ويصنع واقعاً جديداً من خلال "احتلال" المكان العام. ومن ناحية أخرى، لا يكتمل سوى بفعل آخر شديد الهشاشة، يكاد يكون نقيضه، وهو فعل النوم في مكان الاعتصام.

النوم في الاعتصام هو قلب الاعتصام وجوهرته التي يبحث عنها الجميع، وكل اعتصام لم يفترش فيه المعتصمون مكان اعتصامهم لا يعوَّل عليه. لذا يدور الصراع دائماً حول منع المعتصمين من النوم في مكان اعتصامهم، لأنهم متى تمكنوا من ذلك، أصبح اعتصاماً ذا تبعات سياسية.

فعل الاعتصام الراديكالي، المنطوي على مخاطرة واضحة، لا تتم راديكاليته إلا عندما يتخلى عن نفسه، ويحل محله فعل "خامل"، فعل يقوم على نقد مبدأ الفعل، وهو النوم. وفي هذا "الخمول" بالضبط، تكمن القدرة على خلط العام بالخاص، وجعل الحيز العام خاصّاً، والخاص عامّاً، فيتحقق هدف الاعتصام.

الجسد الراديكالي المتوتر والمحتشد ينبسط وتتراخى أوتاره، يتخلَّى عن دفاعاته، مُظهراً ضعفه وهشاشته. ومن خلال تراكم وتجاور الضعف والهشاشة، من خلال مشاركة التعب والألم وكشفهما أمام أعين الجميع، يتحوّل النوم إلى مصدر للقوة ووسيلة للتغيير.

النائمون في اعتصام مفتوح لم يعودوا أفراداً في معركة، وإنما في استلقائهم جوار بعضهم، يصبحون وسيطاً لواقع جديد، أحلامهم هي لغة هذا الواقع الذي يسعون لفك شفرته.


* كاتب مصري مقيم في ألمانيا

** مقطعان من محاضرة بالعنوان نفسه يشارك بها الكاتب في تظاهرة "أشكال ألوان"


اقرأ أيضاً: الخوف من أن نُلمس

المساهمون