مهمّة العودة إلى الذاكرة

مهمّة العودة إلى الذاكرة

14 أكتوبر 2015
الجيلالي الغرباوي / المغرب
+ الخط -

في 1997، انعقدت في مراكش ندوة ثقافيّة خُصّصت للبحث في مسألة "الشفاهيّة في الثقافة". كان من الممكن لهذه الندوة أن تُنسى كما تُنسى الكثير من الفعاليّات التي تقام هنا وهناك على امتداد الوطن العربي. لكنّ القدر أسعفها بنصيب من ذاكرة المشاركين فيها، لا لشيء، إلّا لأنّها لم تتقيّد بموضوعها، ولم تحصر نفسها في نطاقه. وهذا أغرب ما يمكن أن يحدث لندوة ثقافيّة يصبح فيها الخروج عن الموضوع حدثاً استثنائيّاً، بل عملاً في صلب الموضوع.

بعدما رُفِعَتْ عنهم القيود الأكاديميّة المكبِّلة والمسلّمات المتعالمة الخانقة، تنبّه المشاركون في الندوة إلى أنّ الثقافات تمارسُ، من حيث لا تشعر، فعل إقصاء ذاتي، وأنّها تدخل أحياناً كثيرة في ما يشبه حالة الغيبوبة القصديّة أو العفويّة، فتلغي من ذاكرتها ومن سجلاّتها جانباً مهمّاً من منتجاتها ومن إبداعاتها؛ لأن تلك المنتجات والإبداعات لم تُكتب ولم تُدوّن ولم تُحفظ في الأوراق.

لكنّ هذه "الثقافة الأخرى" التي لم تـرْقَ إلى مصاف المكتوب، ولم تَحْظَ بشرف الانتساب إليه، والتي ظلّت وقتاً طويلاً غير جديرة بالدراسة ولا حتّى بمجرّد الاهتمام؛ نجحت بوسائلها الخاصّة في الصمود والتواصل والحضور واختراق التاريخ وتحدّي منطقه.

ولعلّ من أهمّ ما أفضت إليه أعمال الندوة التي نتحدّث عنها أنها نجحت في إقناع اليونسكو بضرورة الدعوة إلى التركيز على ما ظلّ مهمّشاً مُغفلاً متروكاً للصدفة والأقدار، وهو ما وُضع لاحقاً تحت مسمّى "الثقافة اللاماديّة"، فيما لا يزال بعضهم يظنّ أنّ المدوَّن من الثقافة هو الثقافة كلها، وما هي إلّا السطح الظاهر المتعالم الصلب الذي يُخفي تحته الباطن الرخْوَ الأقدر على الحركة والتواصل والاستمرار.

غير أن تجاوز هذه المسلّمات وإعادة الاعتبار لتراث إنساني زاخر، لا ينفي بأنه ما زال مهدّداً في كلّ حين بالاندثار والنسيان والتفسّخ تحت وقع العولمة التي اكتسحت كلّ شيء، وسعت إلى جعل الناسِ متشابهين في أذواقهم وفي ردود أفعالهم تجاه الجمال والإبداع والفن.

ولكن، ما الذي نعنيه بالثقافة اللامادية؟ ولماذا نحتاجُ اليومَ في وطننا العربيّ إلى التركيز عليها والاهتمام بها؟ إنّها القصص والخرافات التي كنّا نسمعها من أفواه جدّاتنا وأمهاتنا فانطبعت فينا، وصاغت خيالاتنا وهواجسنا، وسترافقنا في لاوعينا إلى أن نموت.

إنّها الألعابُ التي كنا نشارك فيها أترابنا؛ لعبة الغمّيضة، والخذروف، والدمية المصنوعة من بقايا الأعواد والقماش، وغيرها كثير. إنّها الأغاني البدويّة التي يصدح بها العمّال في مختلف المواسم الفلاحيّة، حين يجمعون الزيتون في تونس أو القطن في مصر أو البرتقال في فلسطين.

إنّها أيضاً الأدوات التي كان أجدادنا يستعملونها في حلّهم وترحالهم ويعمّرون بها عالمهم الصغير بأحلامه، الكبير بقناعة أهله وذويه، الأدوات نفسها التي نعود إليها مذعنين حين تنقطع الكهرباء وتُعيينا الحيلة وتعوزنا الوسيلة.

إنّها الحفلات التي ظلّ أصحابُها يقيمونها على الشاكلة نفسها منذ مئات السنين؛ فيرافقون العروس بالأهازيج من دار أبيها إلى دار زوجها ممتطين ظهور الجياد رغم وجود السيارات. وهي الأناشيد التي ترافق مواكبنا الدينية المختلفة في ساعات اليسر وفي أيّام المحنةِ والفراق. إنّها كلّ هذا وأكثر.

هي باختصار شديد ذاكرتنا الـمُهدَّدة بالطمس والذوبان والنسيان، وقد آن الأوان لنتذكّرها ونُدوّنها ونحافظ عليها حتى لا تُنسى ولا يأتي علينا يوم فنُنسى نحن أيضاً. ثمّة مهمّة عاجلة، من الضروريّ أن نعكف عليها وأن نتصدّى لها: مهمّة العودة إلى الطفولة وتحفيز الذاكرة في مواجهة النسيان الـمُعَوْلم.


* أكاديمي تونسي


اقرأ أيضاً: الوحوش التي تسكنهم.. المسلمون في المخيال الغربي

المساهمون