بمرارة من ابتلع حديقة كاملة

بمرارة من ابتلع حديقة كاملة

05 يناير 2015
+ الخط -

عزيزي أسامة الدناصوري،

كيف مرّت هذه السنوات بسرعة؟ ثمان سنواتٍ كاملة. أحمل لك في قلبي محبة كبيرة وغيظاً كذلك. غيظٌ من هذه الشعرية التي صدمَت قناعاتي دفعة واحدة، وكنت بعد لم أتخلّ عن مفهومي الكلاسيكي للشعر والشاعر بجزالتهما اللغوية وفخامة سبكهما. لتضربني بشعرية تقول الكثير في كلماتها البسيطة. كانت المرة الأولى حين قرأت "سنتمنتالية" وأنت تفتت قناعاتي بجملة وراء الجملة، حتى نهاية القصيدة الحرّيفة الحارقة: "أيتها الجبانة لقد أفسدتِ كل شيء".

المرة الأولى التي تعرفت فيها إلى قصيدتك كانت وسط بكاء أصدقائك لرحيلك. كنت أخشى كثيراً من فتنة الميت وفتنة الموت التي تمنح صاحبها نصيباً إضافياً من المحبة والتقدير. قرأت بتحفز من لم يتورط في وجع فقدك، ولم أكن أدري بعد أنّ موتك كان رفيقاً اعتدتَ وجودَه، حاضراً في كل ما حولك ومن حولك؛ فحصلت على أعمالك الكاملة لأقرأ "حراشف الجهم" وأبتسم ابتسامة الظافر. أعرف هذه الشعرية القاتمة جيداً، ليست جديدة عليّ، وأيقنت أن بعضهم فقد صديقاً جيداً، لا شاعراً جيداً.

لكنني قلت لنفسي: لا تتعجل.. لديك مجلّد كامل من النصوص. فقرأت "مثل ذئب أعمى" و"عين سارحة وعين مندهشة" بقلب ذاهل تماماً. ما هذه الفتنة الكامنة في جمل قصيرة تكتنز بسخريتها المريرة! حتى إذا وصلت إلى يتيمتك النثرية "كلبي الهرم كلبي الحبيب" وقعت في أسر لحظة سحرية كامنة في كل تفصيلة سردَتها: مرضك، نساؤك، أصدقاؤك، وروحك التي اتسعت لهم جميعاً، مع الموت الذي يظهر صراحة أو يتوارى بين الكلمات.

لكن مقطعا في كتابك آذاني، كأنه رسالة موجهة لي وحدي "كنتُ أسكن أرض الشعر، وأعتبر نفسي مواطناً من الدرجة الأولى. ولأن أرض الشعر أرض فوق واقعية، فهي ليست هي بالضبط في عين كل قاطنيها. فالبعض يراها واحة خصبة، وأرضاً مثمرة، وأشجاراً خضراء طوال العام. والبعض الآخر يراها جرداء وعرة. يظل يسير فيها فراسخ وأميالاً، عابراً السراب تلو السراب، حتى يظفر في النهاية بشجرة وحيدة، تتدلى منها ثمرة واحدة، يتفيأ ظلها قليلاً، ثم يعاود السير، بعد أن يبتل ريقه بالعصير الحلو، وتهدأ معدته.. كلا البعضين يشفق على الآخر.. فالأول من فرط إشفاقه على الثاني لا يراه. أما الثاني، فإنه يرى الأول جيداً، ويعرف كم هو بائس. ويعرف أيضاً أن ما يكنزه من ثمار، ماهي إلا زنزلخت لا يصلح لشيء".

كنتُ من النوع الأول الذي لم تكنه، وهو ما جعلني أكره نفسي وأكره ما أكتبُ كأنه مرض لا شفاء منه. لأيام ظللت أقرأ هذا المقطع وأقول لك: أنا أشعرُ منك يا أسامة، وهذا الزنزلخت سأحوله إلى ثمر طيب الطعم والرائحة. هكذا بقيت أقرأ نصوصي بمرارة من ابتلع حديقة كاملة من الزنزلخت، لاعناً الأيام التي وضعت كتابك في طريقي.

سنوات مرت، وأنا أستعيد شعريتك في مواقف مركّبة، مثل تلك التي تدفعني إلى مرافقة أصدقاء إلى البحر وأنا لا أجيد السباحة وأخاف من الماء، لتخرج كلمات قصيدتك من فمي:

"ذهب أصدقائي إلى البحر
وتركوني وحيداً
بجوار ملابسهم وأحذيتهم.
أصدقائي مجانين،
يلعبون بعنف،
يرشقون بعضهم بجرادل الماء،
وقراطيس التراب،
ولكنهم في النهاية طيبو القلب.
أنا تحت الشجرة
أقرأ، وأفكر في الحياة والموت
أنا فيلسوف الشلّة..
المُقعد الذي يحب الجميع
ولا يكرهه أحد"

كنت أتمنى أن تقرأ قصائدي الأخيرة، أظن أن الزنزلخت وقع من بين يدي، وأنا الآن في رحلة البحث عن شجرتي الوحيدة، وأخشى ألا أدركها.

المساهمون