الرواية في مواجهة استعمار الذاكرة

الرواية في مواجهة استعمار الذاكرة

18 اغسطس 2014
منيف مع زوجته وابنته
+ الخط -

ما الذي أغرى رجلاً ناجحاً بأن يخلع ماضيه المهني في مجال النفط ونشاطاته في الأحزاب السياسية، ليختار الجلوس على رصيف المنفى ويكد مع مُشرّدي الكتابة؟ لا أحد يعلم بالضبط، ولكن عبد الرحمن منيف يقول إنها خيبة العمل السياسي، الفوهة العميقة بين الشعار والفعل، ما دفعه إلى "البحث عن أشكال جديدة لمواجهة العالم". ومن هنا كانت الرواية.

في سياق آخر، يعترف منيف بأن هزيمة 1967 هي التي جعلته يتّجه إلى الرواية، ليس كوسيلة هرب بل مواجهة. بعد هذا لا يكون شاذًا القول إن الرواية عند منيف هي مناورة سياسية بقدر ما هي أدبية؛ فهو نفسه صرّح بأن الرواية هدفها "الديمقراطية"، أيّاً كانت.

منيف يعرف جيّداً كيف يناورُ لعنة سايكس بيكو، فهو المولود في عمّان، من أب سعودي وأم عراقية، درس في بغداد"، ثم القاهرة، وعاش سنتين في لبنان وتزوج من سورية وعاش بقية حياته في دمشق؛ لكن رغم صبغة الأمومية التي تربطه بالوطن العربي، تمّ طرده من بغداد ونفيه من السعودية، ومُنعت رواياته من التداول في بعض الدول، كالسعودية والكويت، ولا زالت "مدن الملح" محظورة - على الأقل رسميًّا - في السعودية.

أمومة قاسية هي تلك التي حين تبدو أنها تعانقنا، تشنقنا، أو العكس. لكن منيف لم يكن يمانع حالة النفي والرفض، وهو القائل "أغرب شيء يواجهه المنفي أنه لا يتعرّف إلى وطنه بشكل جيد إلا في المنفى"؛ وهو بذلك يتقاطع مع مفهوم إدوارد سعيد عن المثقف الذي يجب أن يكون بالضرورة مغتربًا عن مجتمعه وغير متّسق معه لكي تكون المسافة كافية لتعريته.

عندما نقرأ "منيف" ـ لا لام إضافة هنا ـ ستصعقنا حدّة الصورة؛ إذ يكثّف في نصوصه الثنائيّات الضديّة: الصحراء/ المدينة، الولادة/ الموت، أنا/ الآخر، السيد/ العبد، إلخ. ربما هذا أحد أسباب تعاسته، وأيّ كاتب بهذا الصدد لا يتبنّى لغة الاحتمالات، ولا يجذبه منطق المناورة والتبرير والتنازل؟

أحد أبرز أهداف منيف الأدبية هو إيجاد تقليد مستقل وخاص بالرواية العربية؛ وقد حاول تحقيق ذلك بشتّى الطرق. فمثلاً، قام بإلغاء دور "البطل الأوحد" ـ المولود في الرواية الغربية ـ والذي يبرز على حساب أدوار الآخرين الثانوية. أدرك منيف بحدسه أن مفهوم البطل الأوحد يكرّس للاستبداد، وتتشابه سماته إلى حدّ كبير مع "الحاكم الأوحد" في أوطاننا العربية، ذاك الذي تُعلَّق صورته على كلّ حائط، وينال المجد والعظمة حين تحدودب ظهور الآخرين.

عوضًا، ابتدع منيف ما يمكن تسميته "البطل الجماعي" أو "اللابطل" في "مدن الملح"، حيث تتدفق الشخصيات بدون تراتبية ولا محاباة، فالجميع يمثّل معاناته الإنسانية الخاصة حيث إمّا لا أبطال ـ إذ تبدو الأمور مغرقة في العبث والعشوائية ـ أو جميعنا أبطال، نمارسُ بطولةً في ملاحمنا الخاصة والحميمة جدًّا. هذا التجديد في الشكل الروائي حدا بالناقد والكاتب الأميركي جون أبدايك في صحيفة "نيويوركر" أن يعلّق بشيء من الغطرسة، بأنّ منيف لم يكن قد تعمّق في الأدوات الغربية بما يكفي ليكتب ما يمكن أن تصحّ تسميته بالرواية.

وهكذا كان لمنيف محاولات أدبية مستمرة لتخطي "التبعية" الأدبية للرواية الغربية ـ أداةً وشكلًا وموضوعاً. فمن الاضطراد الأفقي للشخصيات والمكان في "مدن الملح" (1984 ـ 1989)، وتجربة التأليف المشترك مع جبرا إبراهيم جبرا في "عالم بلا خرائط" (1982)، وصولاً إلى تصريحاته عن طموحه الأدبي في التأسيس لتقاليد رواية عربية مستقلة في خصائصها وقوالبها وآلياتها، ثمة هدف أدبيّ ذو بُعد سياسي: "تحرير الرواية العربية"، ونقل أحلام الاستقلال من الواقع إلى المجاز، من الأرض إلى الصورة.

تحتل المدينة العربية اهتمامًا خاصًّا لدى منيف، لكنه ليس اهتمامًا عاطفيًا معتادًا، كحال الكاتب مع أمّه/ المدينة، بل هو قلق على ذاكرة هذه المدن من الإهمال والحرب والتآكل والتضاؤل. يشذّ منيف عن تعامل الكُتّاب النمطي والمجازي مع المدينة - ذاك الذي يعتمد بشكل رئيس على الاجترار العاطفي والرمزي للمدينة العربية، المُحتكِم إلى ذكريات الطفولة.

وفي هذا السياق، يتعامل مع فجيعة اغتراب المدينة الراهنة: النموّ السرطاني الطارئ والتضخّم المفاجئ والمتسارع لهذه المدن، أبنية إسمنتية وزجاجية شاهقة في عمق صحراء شديدة القسوة؛ لا اتساق أو انسجام بين هذه المبان وبين محيطها، ولا شيء في هذه الصورة يبدو طبيعيًا: إنها صور مزيفة وبشعة، لا تمتّ للأرض بصلة، ولم تنجبها أرحام هذه المدن! حتّى إذا ما استيقظتْ هذه المدن فجأة من نرجسيتها، ستجد أن الثمن الذي دفعته من براءتها باهظ جدًّا.

ليس مستقبل المدينة ما يُقلق منيف وحسب ـ حين يعبّر عن هذا القلق على هيئة صورٍ شاذة ومتناقضة، بين الطبيعة والمدينة، بين الإنسان والبنيان ـ بل هو معنيٌّ بقلق آخر: ذاكرة المدينة العربية. فهو يصرّح بأن ما كُتب وتم تصويره عن المدن العربية منذ القرن التاسع عشر وحتى منتصف القرن العشرين، هو بأيدٍ أجنبية. وبينما تنسلّ ذاكرة مدننا من بين أيدينا، بالإهمال، والحرب، والتجاهل، والتراخي، تزداد سيطرة الآخر على هذه الذاكرة، وتطويعها كيف يشاء.

وهكذا يلجأ منيف إلى توثيق المكان في الرواية مدفوعًا برغبة استعادة حق ذاكرة المكان من الآخر: من وثائقه وصوره وأرشيفه. فكما يتم استعمار المكان يتم أيضاً استعمار ذاكرة المكان، وبلا ذاكرة تشعرُ المدن ـ كما الإنسان ـ بالتّيه وفقدان الهويّة. وفيما تتواطأ السلطة العربية بالصمت والتخاذل، تبدأ في ذات الوقت بالتعرّي طوعًا على طاولة الكاتب.

قد يكون هذا هو جوهرُ التحوّل الجذري في مسيرة منيف؛ حيث قرّر أن يكتُب مصير السلطة، لا أن تكتب هي مصيره.

* كاتبة وأكاديمية من السعودية 

المساهمون