عزيزي غسّان.. رحيلك فعلٌ مضارع

عزيزي غسّان.. رحيلك فعلٌ مضارع

08 يوليو 2014
+ الخط -

في كل ذكرى لرحيلك، ترحل من جديد، تحرم من هم فوق الأرض متعة انتقاء طقوس الذكرى، لتشغلهم برحيلك وكأنه فعلٌ مضارع. في كل ثامن من تمّوز/ يوليو تترك في الحلق جفافاً، ليس دائماً، لكن عندما تصدف أن أستيقظ في يوم رحيلك وفياً لك. فالوفاء لكاتب ضربٌ من العبث، خصوصاً بعدما تزاحم الكتاب على الجوائز، وعلى صحبة "دوف" وأصدقائه، وكثرت أسماء الرواة، وشابه بعضها عناوين الروايات، فلم أعد وفياً لبني قومك من أهل الأدب.

ربما لم يتسنَّ في عمرك الوجيز، أن تُمسَّ بقرفِ البقاء في الكوكب، حاملاً إرث بلد مُستعمَر، بينما يفاخر بعضهم بطول هذا الاستعمار، وطول الثورة التي لم تُنجز. لم تكن تدري أن وجهك سيُنسخ على القمصان، كوجه رفيقك غيفارا، وحضورك سيعود إليك من الأذهان التي لفظتكما، وأحالتكما إكسسواراً ثوريّ الهوى، لينينيّ الترويج.

لا أحب الكذب، ولو أنّي أفعلها في بعض المواضع. لكن معك أنت، لا أقترف هذه العادة الذميمة. لذلك لن أقول لك إن الأجيال تحفظ ما قصصت، وإني رأيت هذا الصباح، أثناء ذهابي إلى المقهى، فتاةً شقراء تحاور "أم سعد" بين دفّتي مجموعة أعمالك الكاملة. لن أعبّر لك عن دهشتي لأني لم أخرج من المطبخ بعد، ولأني لا أرتاد المقاهي صباحاً، ولأن لا أصدقاء لي من الأدباء يدلّونني على مكامن الشقراوات.

لا يليق برائحة الـ TNT التي نسفتك، في حين صفّق لها البعض، أن تقابَل بثنائيات نقد الرواية، بينما هم ذاتهم من صفّقوا لتشظي لحمك، وأجنحة "لميسك". غيّبوك عن كرّاسات أبناء المخيم، وحرموا لميس أن يكون لها حبيبٌ لاجئ. فأنت أعلم بالرائحة الأجدر، وصفيّة تعلم، لكن ارجوها لأجلنا أن لا تطيل التستر على تلك الرائحة.

قبل أن أنسى، ولتلطيف بعض من غضبك على من هم فوق الأرض، يجب أن أخبرك أن أبناء مخيم جنين أتقنوا صنع المادة اللزجة البيضاء التي قتلتك. لكن أتدري أن تراجمهم اعتمدت "أم العبد" لقباً لها، فاغفر ما استطعت لأجلهم. 

لا تضاد البنية والمعنى يحتفظ بطعم، ولا تزاوج الذات والموضوع سيلقى بالاً، ولا محاولة إثبات تماهي مقولات الكاتب الوسيط سيسعفنا بردم هوّة وعي كنت تحلم بأن يكتمل. لكن يا لك من قناص محترف للوقت! كيف تمكّنت من تكثيف حضورك في تلك السنوات، ورافقت إعادة لملمة هوية "جماعة فلسطين"!

انتقيت العصر الذي يليق بك، وانتقيت الموت الذي يرقى إلى مصادفتك، ولم تُبقِ دائرة الخيارات مفتوحة، رغم بساطة الشخصيات، وصدقية الحبكات التي تزجّ بها إلينا. لكنك أتقنت تلمُّس المصادفة، وهذا من أشياء كثيرة تُحسب لك.


* كاتب من أسرة "العربي الجديد"

المساهمون