عندما تحوّل ميرخولد إلى كلاشينكوف

عندما تحوّل ميرخولد إلى كلاشينكوف

31 يوليو 2014
سبهان آدم / سوريا
+ الخط -

ما الذي يمكن أن تفعله عندما تكون خريج قسم الدراسات المسرحية في المعهد العالي للفنون المسرحية في دمشق؟

يمكنك أن تفعل الكثير، قد تصبح كاتباً، أو مخرجاً، أو صحفياً، أو عاطلاً عن العمل، أو أي شيء آخر، ولكن أهم ما يمكن أن تقوم به لكي تفعل كل ذلك أو أياً منه هو أن تلبي نداء الوطن وتمارس الخدمة العسكرية الإلزامية، وإن كنت لا تدري سر ذاك النداء.

وهكذا تنطلق خلف نداء الوطن الإلزامي حاملاً معك بويا "الجسر" لحذائك العسكري، وبودرة "هامول" للخط الفاصل بين ردفيك، وآمالاً طموحة لما ستفعله بعد أن تتم واجبك المقدس.

تعيش ظروف دورة الإعداد العسكري ـ دورة الأغرار، كما تسمى ـ والابتسامة لا تفارق ثغرك. وهل هناك أجمل من قتل الأب كما ينصح فرويد؟! أجل قتل الأب، فكم مرة خرجتَ من المنزل غاضباً لأن والدك قال لك "عم تلعب شدة بدل ما تدرس يا كلب، خود شهادة وروح عميل يلي بدك ياه بعدين". هناك ينتقمون لك، فبعد أن تنتشي من صوت فيروز قبيل الاجتماع الصباحي حتى يبشرك قائد دورتك في الاجتماع إياه بأنه لا يتنازل لأن يمسح خراء مؤخرته بشهادتك تلك. آخ يا سيدي، لو كنت أعرف ما تحتاجه مؤخرتك وأنا أكدح في كتاب الجغرافيا للصف الثالث الثانوي.

تنهي دورة الإعداد العسكري-النفسي تلك ويتم فرزك إلى موقع من مواقع الجيش، موقع عسكري (أو ميداني حسب الوثائق الرسمية) إن لم تكن محظوظاً، أو موقع إداري إن كنت محظوظاً، أو يتم فرزك إلى منزلك إن كنت مدعوماً.

أين يمكن الاستفادة من شهادتي المسرحية بين صناديق الرمانات اليدوية ولوحات الرادارات وسبطانات الـ T-62؟ هذا ما كنت أفكر فيه قبيل الفرز، واتضح لي بشكل قاطع أن خيالي أضحل بكثير من أفعال القيادة الحكيمة التي تجيد مسح الأدمغة تماماً كما تجيد مسح المدن. فالاهتمام بمخ المقاتل وبصلته السياسية (مع تجاهل المخيخ لأنه يحتوي مركز التوازن) من أولويات قيادتنا، لذلك كرّست قسماً خاصاً بتعقيم عقول المقاتلين تحت اسم "المسرح العسكري".

هذا الاختصاص العسكري المستورد من الجيوش الأوروبية هو أهم رافعة لمعنويات بواسل جيشنا، وأنا أصبحت أحد براغي هذه الرافعة.

صالة كبيرة مجهزة بخشبة متطورة وأحدث معدات الإضاءة والصوت، وفرقة من الممثلات والممثلين لم أتشرف بلقاء معظمهم لأن رواتبهم كانت تصلهم إلى المنزل، أما من سعدت بلقائهم فكانوا لا يأتون إلا مرتين في الأسبوع ليوقّعوا حضورهم ويمضوا على عجل.

كانت هناك مشكلتان فقط في جو الإبداع العسكري هذا. إذ لم ترقَ أي من مشاريعي أو مشاريع زملائي المجندين لخدمة الوطن، إلى ذائقة السيد العقيد مدير المسرح، هذه المشكلة الأولى، أما المشكلة الثانية فكانت أننا ممنوعون من دخول صالة المسرح لأنها صالة مكيّفة ومجهزة بتقنيات ممتازة، وعلينا الحفاظ عليها كي تلبي رغبات المخرجين الذين لم نر أياً منهم. أما نحن فلسنا سوى مجندين في الجيش.

بعد بضعة شهور أصبح السلاح الفردي الخفيف الروسي الصنع الذي يرمي رشاً ودراكاً، والمدعو "كلاشنكوف"، أهم هواجسي. أعدّ المخازن والطلقات، أقوم بحركة الأمان، أتمنطق بالسلاح وأقف على مدخل المسرح مانعاً أياً يكن من دخوله... الصالة مجهزة أحسن تجهيز يا أخي، افهمني أرجوك.

مع امتداد أيام الخدمة بت أرى أي حكيم يقود هذا الرهط من المجندين ـ المسرحيين سابقاً ـ وهذه الصالة ذات التجهيزات الملفتة. فهذا العقيد الذي سبق له أن خاض عدة عروض في مسارح الإنزال المظلي والحرس الجمهوري لم يكن رجلاً عادياً، كان نهماً لقراءة كراسات الحزب والإدارة السياسية بشكل مستفز، فيما أنا أروح وأغدو مع الأخ كلاشنيكوف أمام باب المسرح، مركّزاً إحدى عيني على ذلك الباب، وسارداً بالأخرى بعض الأفكار والخيالات المريضة أحياناً؛ حتى خطر في بالي ذات مرة أن السيد العقيد ربما، ربما ليس أكثر، لم يقرأ شيئاً عن المسرح، أيعقل هذا؟! ألا يجب علي كخادم لهذا الوطن أن أنبّه أحد عظمائه إلى هفوة قد تودي بكل مجهودنا الحربي إلى الهاوية؟

وجدت نفسي في مكتبه أثناء الاستراحة بين نوبتي حراسة، وبكل تبجيل وجدية وبلغة حريصة على حدود البلاد قلت له:

ـ سيدي العقيد، مذ أصبحتَ مديراً لهذا الصرح الرائع لم يتسنَّ لي أن أبارك لك في منصبك الجديد.

ـ شكراً.

ـ سيدي، كنت أقول لنفسي الأمّارة بالسوء أنك ربما لم تقرأ شيئاً عن المسرح، مع أن هذا ضروري جداً لسيد في مثل موقعك.

نظر إلي السيد العقيد نظرة استهجان ازرقت لهولها أطراف أصابعي، وقال منفعلاً:

ـ معقول؟! أتراني أبلهاً أم معتوهاً حتى لا أقرأ عن المسرح؟!

ثم وقف بغضب ضارباً على سطح مكتبه واتجه إلى مكتبة تضم أقوال القائد الخالد حافظ الأسد ودراسات السيد العماد مصطفى طلاس في أقوال القائد الخالد، واستل من بين الكتب كرّاساً صغيراً ولوح به أمام وجهي الذي بات لونه أقرب إلى البنفسجي عندها.

ـ أترى هذا؟ أتراه؟ لم أجلس على كرسي الإدارة في المسرح قبل أن قرأت هذا الكرّاس.

كان الكراس ذا غلاف أسود خُطَّ عليه بلون ذهبي لامع العنوان التالي: "النظام الداخلي للمسرح العسكري"، فضحكت، أجل ظننتها نكتة.

ـ سيدي ليس هذا ما قصدته، كنت أقصد أن تقرأ شيئاً عن ميرخولد مثلاً أو...

ـ مير ماذا؟؟!!

ـ ميرخولد سيدي، مخرج روسي من تلامذة ستانيسلافسكي لكنه ذهب في اتجاه...

ـ روسي؟!

ـ أجل.

ـ مثل كلاشينكوف يعني.

ـ أجل.

ـ ولكنه لا يرمي رشاً ودراكاً.

وجلجلت ضحكة السيد العقيد لتنير أحدث أنواع البروجكتورات في الصالة التي توازي بتقنياتها دار الأوبرا في ساحة الأمويين، ورددت ضحكته مكبرات الصوت الألمانية الصنع، وفي عمق الخشبة تراقصت ظلال الجنود وهم يقودون فيسفولد ميرخولد ليعدم بأمر من ستالين، أما في مقدمتها فتراقصت ظلال الميداليات المعلقة على صدر ميخائيل كلاشينكوف مرددة صيحة النصر: هورااا، هورااا.


* كاتب مسرحي من سوريا

المساهمون