"محاكمات الشجرة".. يوم اليسار السوداني

"محاكمات الشجرة".. يوم اليسار السوداني

19 يوليو 2014
عبد الخالق محجوب مواجهاً جلاده، 27 تموز/ يوليو 1971
+ الخط -
أحد عشر ضابطاً، وخمسة مدنيين أُعدموا، ومئات المعتقلين والمطاردين والمطرودين من أعمالهم، وأكثر من ذلك كسر شوكة حزب قوي ومؤثر؛ ذلك ما حصده الشيوعيون في ما عُرف في السودان بـ"محاكمات الشجرة"، التي صفّى فيها الرئيس جعفر نميري خلافاته مع قادة الحزب الشيوعي السوداني وضباطه - على رأس من أعدمهم زعيم الحزب عبد الخالق محجوب، والقائد النقابي الشفيع أحمد الشيخ، والقيادي جوزيف قرنق، وقادة الانقلاب الرائد هاشم العطا، والمقدم بابكر النور، والرائد فاروق حمدالله - إثر فشل انقلاب التاسع عشر من يوليو 1971، بعد ثلاثة أيام مضطربة، أضحت حقلاً للبحث والتنقيب حتى اليوم.

لكن أثر تلك الأيام لم يقتصر فقط على تاريخ السودان السياسي والاجتماعي، إذ امتد الأثر الأقوى إلى الأدب السوداني، الذي يتبوأ فيه اليساريون مكانة يعتد بها. فأصبحت "حركة 19 يوليو" كما تُسمى، ركناً في أدب اليسار السوداني تقف عليه عشرات القصائد والأغاني التي تمجّد قادة تلك الحركة من الضباط، وقادة الحزب الشيوعي السوداني.

وبخلاف الإدانات والشجب الدولي، والمواقف السياسية والاجتماعية، بقي الأثر الأوضح تحمله عشرات المراثي من شعراء سودانيين ومصريين، وفلسطينيين، ولبنانيين، ومن الاتحاد السوفييتي، والعراق، والجزائر، وفرنسا، وتشيكوسلوفاكيا، حملت ما هو أكثر من الاحتفاء بثبات رفاقهم أمام الموت في ساحات الإعدام، فبكوا فشل تحقُّق النموذج، ربما، الذي كان قد آن قطافه في ذروة نضج اليسار في المنطقة؛ وهو الأمر الذي لو تحقّق لكان يعني إمكانية تحققه مرّات أخرى. بكوا أحلامهم بحريَّة يؤمنون أنها "شمس" ستشرق على الجميع وإن "نصبوا لها أعواد المشانق" كما يقول الشاعر جيلي عبد الرحمن، أو سنابل خير للإنسان برأي سميح القاسم تدوم "فوق أنقاض العصاة القتلة"، أو ضياع فرصة "تفتيت الوثن" كما كتب أيمن أبو الشعر.

لتفسير فيض التعاطف الذي حظي به الشيوعيون السودانيون في 19 يوليو 1971، وهو ما تجلّى في كثافة الأثر الأدبي الذي خلّفته الحركة؛ يقول الشاعر كمال الجزولي لـ"العربي الجديد": "هناك عاطفة قوية تربط الشيوعيين واليساريين عموماً في كل أنحاء العالم، يمكن ملاحظتها في الموقف من فيتنام ومن فلسطين وغيرها من الأحداث".

هذه العاطفة التي جمعت بين الجزولي ومحمد الفيتوري، وجيلي عبد الرحمن، ومارك دولوز، ومظفر النواب، ومحجوب شريف، وغيرهم كثُر، بين دفتي كتاب "حروف ومقاصل" (الخرطوم 1987) الذي جُمعت فيه كل تلك القصائد؛ هي ما جعلت، كذلك، المنظمات الفلسطينية تكرس إصداراتها أيامئذ لإدانة ما حدث. وجعلت الأحزاب الشيوعية في أوروبا الغربية "تشجب وتدين تلك المجازر" كما ينبه الجزولي، لا سيما أن أحداث يوليو تلك لم تكن بعيدة زمنياً من أحداث مشابهة يوضحها بقوله: "بالنسبة للماركسيين بالذات كانت أقوى وأعنف وأشنع الحادثات التي هزّتهم بعمق هي أحداث إبادة الشيوعيين في إندونيسيا في الستينيات، ثم يتكرر مشهدٌ شبيه بذلك في أحداث 19 يوليو".

ليعود الجزولي ويدلل على قوة العاطفة التي ربطت اليساريين في العالم بأن "الشيوعيين السوفييت كانوا حتى وقت قريب من تاريخ تلك الأحداث يناوئون الخط الذي قاده عبد الخالق محجوب ضد نظام مايو، ويساندون جعفر نميري، إلا أنه عند وقوع تلك الإعدامات والمجازر خرجت أضخم مظاهرة احتشدت في الميدان الأحمر بشكل غير مسبوق بحسب مشاهدات المواطنين السوفييت أنفسهم، الذين كانوا يبكون بدموع حقيقية ويهتفون من أعماقهم ضد جرائم إعدام الشفيع وعبد الخالق وجوزيف والضباط الشيوعيين".

قبل أن ينبه الجزولي إلى أن أحداث يوليو تلك "كانت نهاية مأساوية للعلاقات التي كان نظام مايو يأمل في إقامتها مع قوى تحررية كثيرة في العالم، لكنها انفضت من حوله وتركته فريسة غير مأسوف عليها للغرب الاستعماري".

وإن خفت صوت اليسار كثيراً عمّا كان عليه قبل ثلاثة وأربعين عاماً، إلا أن ذكرى فشل انقلاب 19 يوليو 1971 وما تبعه من أحداث دامية، لا تزال تستدعي أدب اليسار القديم ذاته بأغانيه ومراثيه، وروح الأيديولوجيا في ذروتها.


____________________________________

إلى عبد الخالق محجوب 
محمد الفيتوري
                     

حين يأخذك الصمت منّا
فتبدو بعيداً..                                            
كأنك راية قافلةٍ غرقت
في الرمال
تعشب الكلمات القديمة فينا
وتشهق نار القرابين
فوق رؤوس الجبال
وتدور بنا أنت..
يا وجهنا المختفي خلف ألف سحابه
في زوايا الكهوف التي زخرفتها الكآبه
ويجرّ السؤال، السؤال
وتبدو الإجابةُ نفس الإجابه

***

ونناديك..
نغرس أصواتنا شجراً صندلياً حواليك
نركض خلف الجنائز..
عارين في غرف الموت..
نأتيك بالأوجه المطمئنه
والأوجه الخائفة
بتمائم أجدادنا..
بتعاويذهم حين يرتطم الدم بالدم..
بالصلوات المجوسية الخاطفة
بطقوس المرارات
بالمطر المتساقط في زمن القحط..
بالغاب، والنهر، والعاصفة!

***

قادماً من بعيد على صهوة الفرس..
الفارس الحلم ذو الحربة الذهبيه
يا فارس الحزن..
مرِّغ حوافر خيلك فوق مقابرنا الهمجيه
حرِّك ثراها..
انتزعها من الموت..
كل سحابة موت تنام على الأرض
تمتصها الأرض..
تخلقها ثورة في حشاها
انترعها من الموت يا فارس الحزن..
.. أخضر..
قوس من النار والعشب..
أخضر..
صوتك..
بيرق وجهك..
قبرك..
- لاتحفروا لي قبراً
سأرقد في كل شبر من الأرض
أرقد كالماء في جسد النيل
أرقد كالشمس فوق حقول بلادي
مثلي أنا ليس يسكن قبرا
لقد وقفوا..
ووقفتَ..
- لماذا يظن الطغاة الصغار
- وتشحب ألوانهم –
أن موت المناضل موت القضية
أعلم سر احتكام الطغاة إلى البندقية
لا خائفاً..
إن صوتي مشنقة للطغاة جميعا
ولا نادماً..
إن روحي مثقلة بالغضب
كل طاغية صنم..دمية من خشب
..وتبسمت
كل الطغاة دُمىً
ربما حسب الصنم، الدمية المستبدة
وهو يعلق أوسمة الموت
فوق صدور الرجال
إنه بطلاً ما يزال
- وخطوت على القيد..
- لا تحفروا لي قبرا
سأصعد مشنقتي
وسأغلق نافذة العصر خلفي
وأغسل بالدم رأسي
وأقطع كفي..
وأطبعها نجمة فوق واجهة العصر
فوق حوائط تاريخه المائله
وسأبذر قمحي للطير والسابله

***

قتلوني..
وأنكرني قاتلي
وهو يلتف بردان في كفني
وأنا من؟
سوى رجل واقف خارج الزمن
كلما زيَّفوا بطلاً
قلت: قلبي على وطني!

 

(1971)

المساهمون