رسالة إلى محام فلسطيني شاب

رسالة إلى محام فلسطيني شاب

07 مارس 2014
"في المكتب" روكني هاريزاده / إيران
+ الخط -
حضرة المحامي الشاب؛
يسمونه "قطاع العدالة" في فلسطين، وفيه الكثير مما يشبه قطاعات العدالة في الدول المحيطة، وفيه فرادة تميزه، وبصرف النظر عن المجال المتخصص الذي تعمل فيه ضمن هذا القطاع الواسع، فإن لدي جملة ملاحظات أودّ مشاركتك إياها:

لا عدالة في هذا القطاع، ولا مكان فيه للرؤى الأخلاقية الوردية، بل هو مبني أساسا على ظلم بنيوي متصل بالمجتمع والنظام السياسي والاقتصادي وواقع الاحتلال، ولذلك فإن التفكير في تحصيل العدل داخله فكرة طريفة.

إن اضطررت للعمل كمحام أو قاض أو أي وظيفة لها صلة بالمحاكم؛ فعليك بتحسين علاقتك مع "الحاجب"، وأظنه أهم شخص في محاكمنا، هو من يعرف أمزجة القضاة ويساعدك في التأجيل والتسريع، بل ويتجسس لصالحك على بقية المحامين وممثلي النيابة الكريهين، ويعرف جيدا كيف تختفي ملفات قضايا ولا يظهر لها أثر. وهو لا يريد منك في الغالب سوى التقدير والاحترام وإشعاره بالأهمية. ولعلمك فإن الحاجب هو الأعلم بالفساد والشبهات في أي محكمة، بل ويعرف جيدا مع من تعشّى القاضي الفلاني ليلة أمس، وكيف حصل على قطعة الأرض تلك بثمن بخس، ويعرف لماذا تزوّج المحامي الوسيم بنت المستشار القبيحة.

تجنّب قدر الإمكان العمل في قضايا ذات صلة بالأحوال الشخصية، بل بالأحرى حاول العمل في مجال يبعدك عن التواصل المباشر مع الناس مظلومين أو ظالمين.

ستكتشف أن الكثير من زملائك المميزين في سنوات الدراسة لم يعمل أي منهم في هذا القطاع، وللأمر دلالات كثيرة، وبرأيي فإن استمرارك بالدراسة واتخاذ الخيار الأكاديمي مهم وفعّال، وإن كانت مغرياته ضئيلة إلا أنه يضمن لك راحة بال وسمعة طيبة، وإن طعّمته بالقليل من العمل مع مؤسسات حقوقية يمكن بعد حين أن تغدو مستشارا قانونيا يفتي في شؤون الحقوق والعدالة دون أن يتورط عاطفيا في البحث عن العدل الضائع.

يعرف الكثير من المحامين الفلسطينيين عن قطاع العدالة في مصر والأردن أكثر مما يعرفون عنه في فلسطين مع أنهم يعيشون ويعملون فيها، ولذلك عليك الاهتمام بمشروع بناء قطاع العدالة الذي بدأه الأمريكيون ووكالتهم للتنمية الدولية قبل عدة سنوات في الضفة الغربية لتفهم القطاع برمّته اليوم.

أن تكون مشتغلا بقطاع العدالة في فلسطين يعني أن تتقن الحفر في طبقات القوانين التي توالت على هذه البقعة، وتهبط بعدّة عالِم آثار، من قوانين السلطة الحالية إلى قوانين الاحتلال، فقوانين الحقبة الأردنية والمصرية نزولا إلى قوانين الانتداب البريطاني ثم قوانين الحكم العثماني، فكل هذه الطبقات تشكل الأرضية القانونية لفلسطين اليوم، واعلَمْ أن معرفتك التاريخية هي دليلك في دهاليز البلاد المرهقة بكل من احتلوها واستحلوها.

هنالك تهم من قبيل العمالة والجاسوسية وبأحكام مغلّظة في محاكم السلطة الفلسطينية، وتنفذها أذرع أمنية تعتبر التنسيق الأمني مع الاحتلال التزاما واستحقاقا، فلا تستغرب أن تجد أبا لسبعة أطفال اضطر لتقديم معلومات لضابط في جيش الاحتلال مقابل تصريح عمل؛ يحكم بخمس عشرة سنة، في حين يعتبر التعاون مع جيش الاحتلال التزاما أمنيا تتفانى السلطة في تنفيذه.

إن كان لنا أن نتعلم شيئا مما يحدث في مصر اليوم، فهو أن هيبة القضاء أحطّ من بسطار عنصر الأمن وسيجارة السياسي. فلا تعوّل كثيرا.
ستستمع يوميا لقرارات التأجيل تسيل من ألسنة القضاة وممثلي النيابة بكل يسر ولا مبالاة، تذكّر وأنت ترد على رسائل حبيبتك الملحاحة أن قرارات التأجيل المدفوعة بسأم القضاة وإهمال ممثلي النيابة تضيف أياما خاوية لأعمار القابعين في الزنازين في انتظار "حَكَمت المحكمة"، وهؤلاء مثلك لهم حبيبات مشتاقات، وربما أطفال ينتظرون لقمة عيشهم.

البلد مزدحمة بالمؤسسات الحقوقية، والعاملون فيها والقائمون عليها في الغالب انتهازيون مستغلون ولا يقيمون للحقوق أي اعتبار في حيواتهم الخاصة، ولذلك أقْبِل بتوقعات متواضعة، ولا تبالغ في تبني قضايا تراها عادلة وسط مجموع بشري يستغل عدالتها لتحقيق مصالحه، لأنك مع الوقت ستشكّ في عدالة القضية بسببهم.

هنالك الكثير من الكلام المزيّن الفخم ينبغي عليك أن تطرحه طواعية أو مكرها عند أول يوم عمل، مثلا "مبدأ الفصل بين السلطات الثلاث".

لا بد لك من القراءة في الاجتماع والسياسة، وهذا ما سيضمن تفوقك على جيش الزملاء والمنافسين كمثقف، وأهم ما ينبغي عليك البدء بقراءته هو نظريات "العقد الاجتماعي".

ابدأ بتكوين مكتبتك الخاصة واحرص على اقتناء كل الكتب المرجعية في مجالك، فلا قيمة للطلاقة والبلاغة والفذلكات اللغوية التي يتقنها رجالات المحاكم دون معرفة واسعة وتفصيلية.

للمشفى والمحكمة إغراء خاص؛ إغراء التعرف على الإنسان مجردا من كل الزيف ومُتحرِّكا بالحد الأدنى من الغرائز والدوافع.


بما أنك اخترت هذا المجال المهني والوظيفي فستعيش يا حضرة المحامي يوميّا سؤال البحث عن الحقيقة الغائبة والعدل المغيّب، واعلم أن لحظة النطق بالحكم ليست أشقّ ما في المحاكم، بل الكلمات التي يطلقها المتهم بعد سماعه الحكم، خاصة إن كان يظن نفسه مظلوما، تلك صرخات صادقة وبلا قيمة ولا يمكنك أن تنساها مهما كثرت.

المساهمون