أنا نسخة جديدة من هاملت

أنا نسخة جديدة من هاملت

04 ديسمبر 2014
داريل وميلر
+ الخط -

[بعد قراءة لورنس داريل لمسرحية "هاملت"، وكان آنذاك في منتصف العشرينيات من عمره، كتب إلى مرشده الأدبي الروائي الأميركي "هنري ميلر"، عارضاً لأفكاره عن المسرحية. يصف ميلر لاحقاً الرسالة بإعجاب قائلاً إنها "مشروع مقالة". نشر نص الرسالة نفسها في ما بعد في مجلة "ذي نيو إنجليش ويكلي" عام 1937، وكان داريل وميلر قد شرعا يتبادلان الرسائل قبل عامين من هذا التاريخ، حينما كتب داريل لميلر بعد أن قرأ "مدار السرطان"، فردَّ ميلر على الرسالة في سعادة، وبدأت علاقة استمرت لأكثر من أربعين عاماً]


نوفمبر 1936
عزيزي ه. م.
في جحيم حزم الحقائب استعداداً للسفر لقضاء الشتاء في البلدة، انتهيت أخيراً من قراءة هاملت فيما أنا جالس وسط الحطام والفوضى. دعني أحاول أن أخبرك بحقيقة شعوري. تبدو المسرحية صورة مثالية للصراع الداخلي، وقد تم تصويره على هيئة صراع خارجي، وذلك شأن الكتب العظيمة، على الأقل في ما يبدو لي.

ولعل سر حيرة الجميع أمام هاملت المسكين هو أنهم يحاولون دائماً العثور على علاقة بين المعركة الخارجية (القتل وأفيليا إلى آخر ذلك) والمعركة الداخلية. وينتهي البحث بالفشل، لأن الواقعين الخارجي والداخلي يمضيان متوازيين، منفصلين، نادراً ما يتلاقيان. وأتذكر ها هنا ألاعيبك الجدلية، حيث السحر طوال الوقت ظاهر من خلال الواقع.

من الطبيعي أن كل من يحاولون المساواة بين الحالات المزاجية والأحداث الخارجية يصطدمون بالحائط. ذلك أنه ليس ثمة هاملت واحد، بل اثنان. المسرحية تقدم لنا أمير الدنمارك، فلا يتسنى لنا إلا من خلال شقوق درعه أن نرى الرجل الذي بداخله، بل الدودة التي تتلوى في أحشاء الوجع وما إلى ذلك.

ولكن المسرحية تستمر، ويكبر هاملت الداخلي، الذي ما هو بأمير للدنمارك، ويبدأ في تعرية رفاقه في المسرحية من أقنعتهم. وتصيبه الصدمة الكبرى حينما يرى نفسه وحيداً في الحياة ـ بلا رفيق. من دون حتى الصغيرة، الجميلة، العذبة، السخيفة أيضاً، أوفيليا. هوراشيو غبي أحمق. لايرتيس عسكري ممل. بولونيوس ذبابة. الملكة ضفدعة.

وبعد ذلك، وإذ يدرك هاملت أن عليه أن ينصرف عن كل ذلك الزيف إلى ذاته الحقيقية، يشعر بضغط المجتمع واقعاً عليه. يرغمه المجتمع أن يكون الأمير هاملت، مهما تكن معاناة هاملته الداخلي. فهي صورة هائلة للتفكك الاجتماعي السيكولوجي داخل فرد، ولم يكن شكس (أي شكسبير) الوحيد الذي وجد نفسه يحاول كتابة ذلك.

لقد كانت مأساة هاملت هي مأساة العصر الإليزابيثي كله. العصر الذي سمَّم شبابه بالإنسانية ثم لم يظهر لهم منها أي شيء. وهي مأساة إنجلترا الآن وقد استفحلت، وازدادت جهامة ووضاعة عن ذي قبل. ولكنها بالنسبة لأولئك العصافير كانت مسألة حياة أو موت. وكثيرون منهم ماتوا. وبستر وشكسبسر أفلتوا. مارستن وجد طريق الرب، ودون وهول أيضاً. تورنور تضوّر جوعاً. ساوثويل تعذب وتعذب وتعذب ثم دفن. ووسط كل ذلك الوسخ كان مثال الفروسية الساطع يأكل أكبادهم، فينكصون عن الزمن الواقعي كله. وهاملت جهد محلي. صورة موجزة لما يعنيه جنون إنجلترا. وإنك لترى في لورنس مثل ذلك في نسخة جديدة. فالمثالية في هذا البرعم الصغير لم تزل تأكل وتأكل وتأكل... والأسئلة المطروحة في الأدب منذ عهد مارلو تعني الشيء نفسه.

وفي رأيي أن المدار "مدار السرطان" إجابة عن كل تلك الأسئلة. ففيها دارت العجلة حتى رجعت إلى ما قبل العصر الجليدي، حينما كان الخراء خراءً والملاك ملاكاً. في المدار عبور للحد. والذين يدركون منا ما يعنيه ذلك الكتاب ليبتهجون لأنه أعاد النمط كله بصورة نسبية. قد يبدو لك هذا مدهشاً ولكنه حقيقي. وما كان لإنجليزي أن يفعله. فبطريقة ما كان لا بد لك أن تكون منفياً لتفعل ما فعلت بالنطاق الذي فعلته به.

لعلي لو كنت مكانك، ما كان ينبغي لي أن أبالي بقراءة هاملت إلا طلباً للشعر. فعبوسه وشكوكه جميعها أمور محلولة لديك، أنت حللتها كلها. ولكن شكسبير، بالله، كان على وشك حلها جميعاً مرة واحدة. لكنه فشل، ففشل هاملت. ولم يبق من شيء غير النهاية الراكدة، المذبحة الإليزابيثية المعتادة، والنقش الطريف الوجيز الختامي على الضريح.

لقد عاد شكسبير إلى بيته فدفن الأحشاء تحت شجرته. ليطرح السؤال من جديد في شتى أرجاء المكان، وإن يكن بصورة أقل في هاملت، ومن دون أن يزداد قرباً من الحل. لير وتيمون والسوناتات البديعة الموجعة تبيِّن كلها جنونه. لكنه مغلَّل. فلطالما كان الإنجليز، إلا في نشيدهم الوطني، عبيداً. ولم ينفلت منهم من ربقة العبودية إلا تشوسر، وسكلتون، وربما قليلون غيرهما من البربر الأصلاء، فهم بين من أفلتوا إلى الحرية أو ولدوا أحراراً.

لكن ما من كاتب في عظمة شكسبير أو في عصره أفلت. وما من أدلة على الصراع الداخلي في هاملت أضخم من التي تجدها في أجزاء أوفيليا القليلة. فالمجتمع، الذي لا شك في ذكورته الفجة، هو الذي أرغم هاملت على أوفيليا. لكنها بدت غامضة غير مفهومة مما جعل هاملته الداخلي ينبذها بسرعة. يحتقرها. كلا، بل لقد أراد أن يحطمها.

والمفارقة الرهيبة في هذيانه لدى المقبرة إنما هي مفارقة لم يمر بها أحد غيري. فهل ذلك ليؤكد لنفسه؟ لا، بل ببساطة لأنه كان بعيداً عن أي شيء شبيه بالموت، يعيش تاريخه الخاص، منخرطاً في مبارزة كلامية مع شقيقها. مفارقة تتجاوز أي شيء وقعت عليه أعيننا. ولا تمضي دقيقتان إلا ويتمالك نفسه ويمضي مبتعداً هو وهوراشيو، يثرثران في أي شيء. أوفيليا هي المأساة الخارجية فقط، ولا وزن لها.

حسن، أنا لا أعرف إذا كنت تتابع فكرتي المجنونة هذه، إذا لم تكن تتابعها فأخبرني بذلك من فضلك وسوف أرسل إليك المقالة التي سوف أكتبها عن حبيبك هاملت. رفيق النكتة اللانهائية. مفارقة كمفارقتك. وهل يمكن إذا سمحت أن تحتفظ بهذه الرسالة؟ ففي غضون فترة وجيزة أود أن أشرع في كتابة ملاحظات من أجل المقالة وقد تساعدني هذه الرسالة قليلاً. إنني لم أكتب بعد حرفاً في المقالة وأفكاري متشابكة بعض الشيء. وهذه الرسالة سوف تساعدني في استيضاح أفكاري في النهاية.

أقول، هاملت مسرحية عظيمة، ولا بد أن تكون كذلك. تي إس إليوت يعدها فشلاً فنياً. وهذا يجعلني على يقين تام من عظمتها. نضال إليوت بالغ الوهن لا يمكِّنه أن يدرك عن أي شيء أصلاً تدور المسرحية.


ترجمة عن الإنجليزية: أحمد شافعي

المساهمون