ممدوح عدوان.. تلويحة من الأيدي المتعبة

ممدوح عدوان.. تلويحة من الأيدي المتعبة

19 ديسمبر 2014
+ الخط -
تعلّمنا تجربة ممدوح عدوان (1941 - 2004) أنّ الثقافة، في ملمحها الأساسيّ، عملٌ متواصل، تتماهى فيه قيم البحث والاستقصاء بالسعي اليومي وراء الخبز، وأنَّ المثقَّف هو ذلك الجالس إلى مكتبه يكدح مع اللغة والأفكار. هذا ما كان يفعله صاحب "وعليك تتكئ الحياة". ولو افترضنا أنه كان يعيش حياة بوهيمية، كما يحلو للشعراء أن يعيشوا، لما تسنّى له أن ينتج ذلك الإنتاج كله، بسوية عالية، وفي حقول مختلفة.

تجربة عدوان نتج عنها 26 مسرحية، 20 مجموعة شعرية، روايتان، خمسة كتب نثرية، 25 كتاباً مترجماً، عشرون مسلسلاً تلفزيونياً، آلاف المقالات؛ تجربة تعيدنا إلى عصر آخر كان فيه الكاتب ورشة عملٍ وأمل، وفرداً تتنازعه أحلام جماعية، فبمقدار ما يسعى لأن يساهم في الثقافة، يطمح لأنْ يكون، هو نفسه، ثقافة.

استعاد عدوان حضوره مع بداية الثورة السورية، من خلال عدة إشارات، أولها كتابه "حيونة الإنسان" الذي وجد قرّاءً جدداً يتناقلونه على صفحات التواصل الاجتماعي، ويتبنّون أفكاره، لا سيما تلك المتعلّقة بالشبيحة. يقول: "الشبيحة قادرون على تمرير أيّ شيء من دون أن تستطيع أية جهة مساءلتهم، وهم بالطبع أتباع، الشبيحة هم الأتباع المتسلطون باسم نفوذ سيدهم (الخال أو المعلم)، وهم يمررون أي شيء لأنهم لا يتعرضون للمساءلة، ولا تتعرض سياراتهم أو بيوتهم أو أشخاصهم للتفتيش أيضاً، ولذا فإن سياراتهم التي لا تفتّش قد تدخل أفيوناً أو سلاحاً أو بضاعة مهربة وربما جواسيس".

كما أنّ الكلمة الشهيرة التي ألقاها في "مؤتمر اتحاد الكتاب العرب" عام 1979، تضمّنت عبارته الجريئة والمدوية "النظام يكذب حتى في النشرة الجوية"؛ عبارة عادت لتتداولها الألسن وكأنها قيلت بالأمس، كما رفعت كلافتةٍ في العديد من المظاهرات.

يصرخ عدوان: "لماذا يكذب النظام؟ ولماذا يكذب الحزب؟ ولماذا تكذب فئة ما؟ الكذب ينطلق من الخوف، الخوف من الآخرين. والسلطات التي تكذب، هي سلطات تخاف الشعب، وتخاف أن يراها على حقيقتها [...]. كلنا في هذا الاجتماع تجنبنا الحديث عن مسائل معينة. لا أحد تحدّث عن سرايا الدفاع. لا أحد تحدث عن المخابرات. لا أحد تحدث، إنْ لم نقلْ عن الوجه الطائفي للسلطة، فعلى الأقل عن الممارسة الطائفية لبعض العناصر في السلطة".

تلك هي الصورة التي أخذها الجيل السوري الأخير عن الشاعر الذي رحل في مطلع الألفية الثالثة. لكنّها تفصيل من صورة تحتاج إلى الكثير من الوقت والعناية للإحاطة بأبرز ملامحها.
شعرياً؛ كانت قصيدة عدوان تنوء بحملي الغنائية والأيديولوجيا، مثله مثل غالبية أبناء جيله.

ورغم أن كثيراً من زملائه في جيل الستينيات قد ذهبوا إلى مناطق أخرى، ظلّ هو مطمئناً إلى تلك الغنائية الريفية، التي من شدّة ولائه لها وصل به الأمر إلى حدّ أنه راح يكتب مواويل بالفصحى تحاكي طرائق وأنماط صياغات المواويل الشعبية. ربما لأنّ رغباته في التجديد والتمرّد كانت تجد مسارب لتفريغها في حقول أخرى مما يكتب: "لا يُسقط القاموع/ إلا عصا الراعي/ ولا يصاد الجوع/ إلا بمقلاعِ/ لو مقلتي ينبوع/ لم تشف أوجاعي/ فالذنب لا يبري/ إما نعى الناعي/ قد خنتهم قسراً/ إذ لم أزل حيا/ لو صاحبي من/ جنب قبرى مرةً حيا/ لأعادني، وأنا القتيل بحبه، حيا/ أين السبيل إلى/ الهناء ولم أجد حيا/ إلا وفيه نادب/ غدر الصحاب".

لكنّ نصه كان يشير إليه من خلال امتلائه بالدراما والحكي، والأساطير والرموز المعاد بناؤها. خلفيات النص وكواليسه كانت تتفوق على مسرحه. بمعنى آخر؛ أطلق عدوان العنان للمعنى لكنه أبقى المبنى أسيراً.

في المسرح، حفلت أعماله بآلام واقعنا المهزوم، فنبش في التراث العربي الإسلامي، ليعاود مساءلة الواقع، كما في "ليل العبيد"، المسرحية التي نظرت إلى الإسلام كثورة. كذلك فعل مع التراث العالمي، في "هاملت يستيقظ متأخراً، إضافةً إلى اهتمامه البالغ بالمونودراما التي قدّم فيها "الذباب" و"القيامة" و"أكلة لحوم البشر"، وخصوصاً "الزبال" التي احتفظت بصدى وتأثيرٍ في المشهد المسرحي السوري؛ وترجمته العديد من النصوص المسرحية والنقد المسرحي، لا سيما كتاب "الشاعر في المسرح".

في عمله الصحافيّ، لا يزال هناك من يتذّكر مشاركته في تحرير ملحق جريدة "الثورة" في السبعينيات، الذي صار منبراً لمعظم الأصوات التي ظهرت في سوريا خلال تلك الفترة.

ابتكر عدوان أعمالاً كلاسيكية للثقافة في سوريا، وعلى رأسها كتابه "دفاعاً عن الجنون". ولعل طريقته في كتابة المقال، ومن ثم جمعه مقالاته في كتاب، يشيران إلى استراتيجية خاصة، لا تقبل أن تبقى فكرة من أفكاره ضالةً وبدون إطار أو بيت ومأوى. الشاعر مَقَاليٌّ في ملمح أساسي، وكتبه "حيونة الإنسان" و"تهويد المعرفة" و"نحن دون كيشوت" و"جنون آخر" هي مجموعة مقالات تحوّلت إلى كتب. هكذا هو، واحد من أولئك المقاليين الذين جعلوا الكتابة الصحافية في صلب الإنتاج الثقافي، وفناً أدبياً تتماهى فيه تقنيات السرد والأفكار.

في الجزء الذي يمثّل السيناريست التلفزيوني، كان صاحب "الدوامة" أقرب إلى مدرسة عربية في هذا المجال. فقد جمع تقنيات ومزايا المسرح مع الخيال الروائي، ضمن خلفية ثقافية هائلة، ما جعله يقدّم تحفاً للشاشة الصغيرة، أبرزها مسلسل "الزير سالم"، درّته ودرّة الدارما السورية معاً. ففي هذا العمل قدّم أسساً لكتابة الدراما التلفزيونية التاريخية، من حيث اختياره لقصة يعرفها الجميع، لكنه أخذها إلى مسارات لا يمكن للناس أن يقبلوا بها، حيث جعل البطل الأسطوري، كما يعرفونه، يهزم ويتوسّل ويتناذل.

إضافة إلى ذلك، أعدّ سيناريوهات عن الأدب العالمي لتكون دراما تلفزيونية تثقّف. فعلى خلفية بوليسية، قدّم مسلسل "ليل الخائفين"، الذي تدور حبكته حول رواية مسروقة، ما جعل المشاهد يعيش ضمن أجواء الكتابة وأسئلتها. وفي "اللوحة الناقصة"، وضع المشاهد على تماس مع الفنون البصرية وعوالمها.

لكنّ "الزير سالم" يبقى هو الأهم على مستوى القيم الفنية واللغوية والتاريخية التي يتضمّنها، ولإثارته جدلاً هائلاً في صفحات الصحف السورية. وقتها قام ممدوح بكتابة ست مقالات ردّ فيها على كل الآراء التي تناولت عمله، وأوضح رؤيته وأهدافه. ولاحقاً صارت هذه المقالات كتاباً اسمه "الزير سالم.. البطل بين الدراما والتاريخ".

قيمة صاحب "أعدائي" أنه كان قادراً على أن يخلق معارك فكرية، ويحوّل الجدل إلى كتاب. كان الصحافي الذي فيه يشاغب، والكاتب الذي فيه يتأمل الارتكابات ويضعها في نصابها الفكري.

حين رحل عدوان في 2004، جرى تكريمه رسمياً بشكل لافت، في احتفالية احتضنتها دار الأوبرا، وغطّتها مباشرة الفضائية السورية. ولاحقاً أقيمت ندوات تكريمية له وأُعد عنه كتاب استعادي، إضافة إلى بقاء محطات التلفزيون والإذاعة والصحف المحلية تتحدّث عنه لفترة طويلة، صار فيها الباعة وعمال التنظيفات يعرفونه. آنذاك كان بعض المثقفين السوريين بدؤوا يتهامسون إنه "ربيب النظام" و"طفله المدلل" وها هو ذا يكافئ على خدماته.

الآن، وبعد عشر سنوات على رحيله، ندرك أن ممدوح عدوان كان وطنياً نظيفاً وجريئاً، صاحب كلمة حق، والأهم من ذلك، كاتباً سورياً بامتياز.

المساهمون