مئة عام من الهجرة

مئة عام من الهجرة

07 نوفمبر 2014
معتوق أبو راوي / ليبيا
+ الخط -

يكاد المرء يهتف بالسوريين الذين يرحلون عن بلادهم: لا تركبوا البحر! حين يقرأ كتاب ليلى سلوم إلياس، "الحلم فالكابوس"، وهو عن السوريين الذين ركبوا التيتانيك، ذلك أنّ عدداً كبيراً منهم ماتوا غرقاً، بينما قَتل ضباط السفينة البريطانية المحطّمة، عدداً آخر منهم، حين حاولوا الصعود من عنابر الدرجة الثالثة (حيث كان الفقر قد اضطرهم إلى اختيار التعرفة الرخيصة التي تخوّل صاحبها شرف البقاء في الأقبية السفلى) بحثاً عن أي قارب من قوارب النجاة، التي خُصصت للسادة من ركاب الدرجة الأولى.

أقول يكاد المرء يهتف بهم لولا أمران: الأول هو أن آلافاً منهم لم يركبوا التيتانيك، والثاني هو أن ثمة كلمة غائبة، أو مضمرة في العنوان هي: الكابوس فالحلم فالكابوس، إذ لم يهاجر السوريون منذ بداية القرن العشرين من بلادهم، بحثاً عن الحلم وحده؛ بل هرباً من الكابوس الذي كان متجسداً آنذاك في إهاب عثماني سماه التحالف الدولي: الرجل المريض، وراح يقتسم إرثه بشراهة متسترة بعناوين الحضارة.

اللافت أن السوريين، ممن لم يسافروا على متن التيتانيك بالطبع، لم يكتبوا أدباً عن المنفى، من جبران (وهو سوري قبل سايكس بيكو) إلى إيليا أبو ماضي ونسيب عريضة، بل كتبوا أدباً عربياً فحسب، ارتأى مؤرخو الأدب أن يسموه: الأدب المهجري، نسبة إلى أمكنة الاغتراب، دون أن تكون له سمة مميزة، أو طارئة، عدا واحدة كانت المدارس الثانوية، في سوريا، تلقنها لطلابها بقوة، هي: الحنين. والحنين عطب وجداني أصاب معظم أدباء المهجر.

بيد أن المحيّر في الأمر، هو أن لا يجد رشيد سليم الخوري، الملقب بالشاعر القروي، ما يقوله حين عاد إلى دمشق في أوائل الستينيات سوى هذا النداء: "بنتَ العروبة هيّئي كفني/ أنا عائدٌ لأموت في وطني". مسكين! أفكّر أن الشاعر الحزين لم يجد في أرض حنينه ما يغريه بكتابة تمجّد الحياة، أو تحاول ابتكار ضراعة ما لإطالة العمر. فيما كان في مهجره يزعزع بنية الاستعمار والطغيان معاً، مما أغرى مؤرّخاً مثل فيليب حتّي، وهو "سوري" اختار الاستيطان في أميركا، أن يقول في كتابه "السوريون في أميركا": "ما إن بدأت الهجرة السورية حتى أضحى قلم المهاجر أكثر حضوراً وتأثيراً من سيف المضطهد".

لا يحتاج السوريون إلى رؤيا القرويّ، سواء قرؤوها أم لم يقرؤوها، ذلك أن سيل الرحيل (ويمكنك أن تقول الهجرة، أو النزوح، أو الارتحال، أو الاغتراب، أو اللجوء)، لم يتوقّف طوال مئة عام، وها هو القرن الواحد والعشرون يضيف سنواته إلى تاريخ الهجرة السورية.

ما يزال الوطن يفرّخ الكوابيس، كأنها بلا نهاية، فيما يبقى الحلم حائراً، يضع السوري في خيارات حزينة: فإما أن يبقى هناك، وقد وسع السوريون اليوم مساحة هجرتهم، فوصلوا إلى شوارع داكار، يذرف الدموع ويتحوّل إلى مادة في المدارس الثانوية، أو يعود عضواً في وفود زائرة تعفى من الخدمة العسكرية، أو يرسل شيكات تساهم في إعادة إحياء صناعة الزجاج. وفي كل الأحوال فقد تكون الأمنية النبيلة هي أن يظل قلم المهاجر ممتلئاً بحبر الكتابة.

* روائي من سوريا 

المساهمون