زيارة إلى "الحاج إدمون"

زيارة إلى "الحاج إدمون"

28 نوفمبر 2014
(تصوير: سعد تازي)
+ الخط -

بهدوء عبرت هذا الشهر الذكرى الرابعة لرحيل الكاتب والروائي والناقد الفني المغربي إدمون عمران المليح (1917 ـ 2010)، أحد الأصوات المغربية التي راهنت، منذ أزيد من نصف قرن، على ربط الممارسة الثقافية والإبداعية بامتداداتها السياسية المبدئية، من حيث هي أخلاق وسلوكيات، وانحياز مطلق وغير مشروط للقضايا الإنسانية النبيلة.

الذين تعرّفوا إلى المليح أو استظلوا تحت خيمته الإنسانية العامرة، ما زالوا يحتفظون له بتلك الروح الشابة المرحة، وبتلك الأبوة الحانية، غير المشروطة إلا بصواب المسعى؛ سواء تعلق الأمر بعالم الإبداع، سرداً وتشكيلاً، أو بدهاليز السياسة، بما هي شجاعة موقفٍ ونبل اختيار.

وعلى هذا النحو، ظل إدمون عمران المليح (وكان يناديه أصدقاؤه وجيرانه بـ "الحاج إدمون") على امتداد أكثر من نصف قرن، يؤسس لصوته (وصمته أيضاً) النضر والمختلف، ولحضوره الوازن، إن في حياته المغربية العصيبة أو في مهجره الفرنسي. رجل أدب وثقافة وفكر من طينة خاصة، على الرغم من أنه لم يكشف عن ميولاته الأدبية، سارداً ماهراً وناقداً فنياً مجرّباً، إلا في سن متأخرة من حياته.

ولد المليح في 30 آذار/ مارس 1917، في مدينة آسفي، جنوب الدار البيضاء، من أبوين مغربيين يهوديين من أصول صويرية (نسبة إلى مدينة الصويرة  – موكادور، التي أوصى بأن يدفن فيها). وفي آسفي الساحلية، التي أمضى فيها طفولته وجزءاً من شبابه، خبر الكاتب معنى التسامح والتعايش بين الأديان، اللذين كانا يطبعان الحياة اليومية المغربية، إن على المستوى الرسمي أو الشعبي.

وقد شكلت الهجرات الأولى ليهود المغرب إلى "إسرائيل" (إن اختياراً أو إكراهاً)، التي جرت أطوارها في سرية تامة وتحت جنح الظلام، بين عامَي 1948 و1967، حدثاً تراجيدياً بامتياز، تلقاه الكاتب بحسرة كبيرة، لما اكتنفه من غموض وتشريد وتقطيع للأواصر، لعب فيه تداخل مصالح جهات رسمية مغربية وصهيونية (سياسية واقتصادية منفعية) دوراً محورياً وحاسماً.

من هنا أصبح موضوع الكشف عن بعض ملابسات وخبايا هذا الحدث المأساوي إحدى أهم انشغالات المليح السياسية والثقافية، هو الذي كان قد اختار البقاء في بلده المغرب، لأسباب مبدئية وطبيعية، لا تحتاج إلى تبرير.

هذا الوعي بقيمة الارتباط ببلده المغرب وبضرورة الدفاع عنه، أيام كان يرزح تحت الاحتلال الفرنسي، تشكّل شرطه السياسي في وجدان الراحل وقناعاته في بداية 1945، حين التحق بصفوف شبيبة الحزب الشيوعي المغربي، قبل أن يصبح، ثلاث سنوات بعد ذلك، عضواً في مكتبه السياسي، مسخّراً نضالاته السياسية في سبيل إجلاء السلطات الفرنسية عن المغرب.

وبعد الاستقلال بثلاث سنوات، أي في عام 1959، أعلن اعتزاله العمل السياسي، وتكريس كل وقته لتدريس الفلسفة في إحدى ثانويات مدينة الدار البيضاء، ثم في العاصمة الفرنسية باريس، التي قدم إليها عام 1965، مرغماً تحت ضغط آلة القمع الشرسة وسحق الحريات، التي كان الملك الحسن الثاني قد دشن بها أولى سنوات حكمه، في صراعه مع معارضي سياساته الاستبدادية.

في فرنسا، سينخرط المليح في طاحونة الأجواء الثقافية والأدبية التي أفرزتها أحداث أيار/ مايو 1968، دون أن يرهن نفسه للأضواء الإعلامية أو الخرجات المتسرعة. وقد استمر في حالة الكمون والتريث هذه حتى عام 1980، وهي السنة التي سيصدر فيها، وهو في سن الثالثة والستين، أولى أعماله الروائية باللغة الفرنسية، "المجرى الثابت".

رواية ستليها أعمال سردية إبداعية ونقدية فنية أخرى تجاوزت العشرة، إلى جانب نصوص متفرّقة قدّم فيها بحس نقدي عميق، صارم وغير مجامل، أعمال ومعارض فنانين تشكيليين مغاربة وأجانب. ومن هذه الأعمال، نذكر "أيلان أو ليل الحكي" (1983)، "ألف عام بيوم واحد" (1986)، "عودة أبو الحكي" (1990)، "أبو النور" (1995)، "حقيبة سيدي معاشو" (1998)، "المقهى الأزرق: زريريق" (1998)، "كتاب الأم" (2004)، "قانة، ذلك اليوم" (2008)، "رسائل إليّ" (2010).

وإثر انفراج الأجواء السياسية في المغرب، في السنوات الأخيرة من حكم الحسن الثاني، في التسعينيات، عاد إلى وطنه حيث تحوّل بيته المتواضع والدافئ في مدينة الرباط، حتّى وفاته يوم 15 تشرين الثاني/ نوفمبر 2010، ملتقى يومياً للكتّاب والفنانين من مختلف الأعمار والجنسيات والحساسيات الثقافية والفكرية والتعبيرات الجمالية، ممن كانوا يجدون في مجالسته ومناقشته القارئ الحصيف والعميق، والمتتبّع الذكي، والمثقّف الملتزم بالدفاع على طريقته، وبنبل نادر، عن القضايا الإنسانية العادلة، التي كانت القضية الفلسطينية تشكّل إحدى عناوينها البارزة.

وفعلاً، شكّلت القضية الفلسطينية، إلى جانب انتمائه المغربي الصريح، المنطلق، أو الأساس، لإدانته تهجير يهود المغرب إلى "إسرائيل" وكل من تواطأ في ذلك، معتبراً هذا التهجير بمثابة سرقة مواطنين مغاربة من قبل دولة أخرى، ولقوله إن الديانة ليست هي التي تحدد الوطن. ومن هذا المنطلق أيضاً، قاطع "إسرائيل" طوال حياته.

المساهمون