هل أحدّثك عزيزتي هيفاء

هل أحدّثك عزيزتي هيفاء

24 نوفمبر 2014
أسامة دياب / فلسطين
+ الخط -

عزيزتي هيفاء*

كتبتِ عن مأساة الساحل السوري المدلّل، وتوّقَفْتِ مُطولاً عند ازدحامه بالنازحين في كلّ من اللاذقية وطرطوس، وعن معاناة المدينتين من تقنين الكهرباء والماء، وسوء المعيشة لعدم تناسب الدخل مع الغلاء، وانتهيتِ إلى التساؤل عن المعاش في المناطق الملتهبة.

هو ترفٌ في السؤال صديقتي، فاللشمانيا وما يرافقها من أمراض، على رفضنا لها أن تنتشر بين أهلينا، هي ترفٌ أمام ما تتعرّض له باقي المناطق السورية.

لن أطيل في المواجع، ولن أتلاعب باللغة، ولن أشكو الكهرباء، ولن أتتبع الأسئلة الكثيرة على صفحات التواصل الاجتماعي، لن أتوقف عند الهجرة، ولا عند سفن الموت.

لكنني سوف أتوقف عند ذاك الطفل في مخيم اليرموك، كان اسمه أحمد. لم يكن أحمد العربي لدرويش، بل أحمد من قضاء مدينةٍ مسروقةٍ اسمها صفد. لا مدرسة يذهب إليها في الصباح. أمه قنصها غضنفر حين كانت تزحف في مساحة خاليةٍ باحثةٍ عن بعض ما تجود به الأرض بعد مطرةٍ. ذهبت لتأتي بنبتة كانت تأمل أن تكون وجبة غداء له ولإخوته؛ وهي حسب ما نسميها "رجل العصفورة". نبتة سامة إذا لم تسلق.

أحمد أُسعف لأيام بفنجان ماء ساخن منكهٍ ببهارات الأندومي، وكان الفنجان ترفاً أيضاً.
الأسبوع الثاني لم يعد لأحمد غير الماء، لم يترك حاوية، ولا شارع إلا وبحث فيه عن كسرة خيز.

في الأسبوع الثالث، وصل أحمد إلى مرحلة فقدان القدرة على الحركة، ثم وصل إلى مرحلة رفض جسده حتى للماء. وهكذا حتى وصل إلى الصمت المطلق. مات أحمد.. مات جوعاً.

الكهرباء ترف أيضاً إذا ما أنارت البيوت لنصف ساعة، بحيث وصلت المرحلة إذا ما امتدت لساعة، أن يعتبر هذا الموضوع تحسناً في الحياة.

أما البراميل ومسلسل القصف، فحدّث ولا حرج، لقد وصلنا إلى مرحلة أن تصمت القذائف لساعة ترف، هذا دلالنا صديقتي هيفاء، عائلات تم محوها من السجل المدني. صار أن نبقى على قيد الحياة ترف.

أعرف أن هذا يوجعك، ولو لم تكوني كذلك لما كتبت وجعك في دلال الساحل، لكن ثمة مثل يقول: من يأكل العصي ليس كمن يعدها. لك أن تتخيلي ماذا يعني أن يموت ما يقارب المئتين جوعاً في مخيم اليرموك.

لا أخفيك صديقتي، أنني على استعداد لأن أجالس طشت الغسيل لساعات، لكن لا أرغب أبداً في أن أمر كل صباح على خبر صامتين عن الحياة، كنت أعرفهم، كانوا يسيرون إلى شبابهم، وكان لديهم أحلاماً غزيرة، لن أتحدث عن حبهم لجميلة رسموها في مخيلتهم كما يريدون، فقط بعضهم حلم بدفتر وبعض ألوان.

هل أحدثك عن العجوز التي كانت تصرخ ملء عمرها المديد وملء جرحها: يا أهل النخوة. وغير بعيد عنها كان وحيدها مسجى دون رأس في بلدة جديدة، هل أحدثك صديقتي؟ أغص بالحكايا والصور.

مما لا شك فيه أن الكارثة هي ما حل بسوريا، بلد الفقراء، وصارت ساحة لتصفية حسابات العالم كله، لكننا، نحن الموجوعين بالموت الكثير، بتنا لا نعرف إن سرنا في شارع في دمشق، إن كان سيقيض لنا العودة أحياء.

صديقتي: بت أكره صفحات التواصل الاجتماعي، وبت أكره الأسئلة التي لا إجابات لها، أما الاكتئاب، فأقسم أنه ترف، لنحمد الله أننا لم نصل بعد إلى الفصام.

نغبطكم على الساعات الثلاث، نغبطكم على ساعتي ماء، ونغبط سماءكم التي لا براميل فيها ولا قذائف. طبعاً وأملي أن لا يصل جحيمنا إليكم، لأني أحبك وأحب أصدقاء كثر لي هناك. ولا أرغب أن يطال الأذى أحد من سوريا.

لكني أحمل عبء جمل المحامل، هل تتذكرون جميعا تلك اللوحة، حيث القدس على ظهر عجوز، في حله وترحاله؟ وهذا بالتأكيد ليس حالي فقط، بل حال كل السوريين والفلسطينيين السوريين، الذين عاشوا تغريبة أكثر وجعاً من التغريبة الأولى.

نسيتُ أن أقول أن العجوز التي بكت عمرها وصرخت ملء الكون "يا أهل النخوة"، فقط لتواري جسد ابنها الذي لا تعرف أين طار رأسه، لم يقترب منها أحد، بقي ابنها مسجى، لأن أحدا لم يكن يرغب في أن يتحول إلى هدف لقناص كان جاهزاً لفريسة جديدة.


* الروائية السورية هيفاء بيطار

المساهمون