كبير داس.. مَطالِب القلب

كبير داس.. مَطالِب القلب

12 نوفمبر 2014
لوحة لرسام مجهول تظهر الشاعر ومريديه من حوله
+ الخط -

"مطالب القلب"، تلك التي عُرفت بـ"ديانة الحب" في الهند؛ هي أول الطريق الذي وضع عليه الشاعر الهندي الصوفي كبير داس قدمه منذ وقت مبكر في حياته، بعد أن صار تلميذاً للناسك الشهير "راماناندا".

الشاعر الذي مرّت على وفاته أكثر من خمسة قرون (ونقله إلى العربية الشاعر عاشور الطويبي في مختارات صدرت عن "دار أركنو")، كان مصلحاً دينياً أيضاً، فقد ولد (1440) لأبوين مسلمين، وتلقّى تعاليمه على الطريقة "البرهمية" التي أتت، على يد "راماناندا"، من جنوب الهند إلى شماله، تائقة إلى الإصلاح الديني.

كان هذا الإصلاح، في جانب منه، رد فعل على تعاظم شكلانية المذهب المتشدد، وفي جانب آخر، كان تأكيداً على مطالب القلب في مواجهة تصلّب النزعة الفكرية المتشددة. تلك المطالب التي تحضر على مستوى معيّن من الثقافة الروحية، وتجد تعبيراً عنها في فقرات من الكتاب الهندي المقدّس "الباجافاد جيتا" (الأنشودة السماوية)، لمؤلّفه شاكونتالا راوا شاستري.

ويبدو أن "راماناندا"، الذي يقال إن هذه الثقافة وصلت إلى داس من خلاله، كان إنساناً ذا ثقافة دينية واسعة، وممتلئاً بالحماسة التبشيرية. وبسبب حياته في اللحظة التي كان فيها الشعر المشبوب العاطفة وفلسفة المتصوفة الفرس الكبار مثل العطار وسعدي والرومي والشيرازي، يمارسان تأثيراً قوياً على الفكر الهندي، فقد حلم بإيجاد مصالحة بين التصوف الإسلامي الشخصي وبين لاهوت البرهمية التقليدي.

يُعتبر داس بالنسبة إلى تلاميذه مصلحاً دينياً ومؤسساً لمذهب ما زال ينتمي إليه ما يقارب تسعة ملايين هندي في شمالي ووسط الهند وعدد من الأماكن حول العالم. إضافة إلى تفوقه كشاعر صوفي، يبغض التعصب الديني، كان يسعى، قبل أي شيء، إلى تحرير الناس من أشكال التمييز كلّها. وظلت أغانيه حية، وتتردد حتى اليوم على ألسنة المطربين. وفي الحقيقة، إن ما جعل لأشعاره هذه الجاذبية الدائمة هو تعبيره العفوي عن رؤاه وحبه، وليس التعاليم الوعظية التي ترتبط باسمه.

القليل المعروف عن حياة داس يناقض الكثير من الأفكار السائدة عن التصوف الشرقي. فما تزال مراحل التلمذة التي مرّ بها والطريقة التي تطورت من خلالها عبقريته مجهولة تماماً. ويبدو أنه ظل لسنوات تلميذاً للناسك "راماناندا"، ينضم للمجادلات اللاهوتية والفلسفية التي عقدها أستاذه مع الشيوخ الكبار والبراهمة في أيامه.

لذلك، من الممكن رؤية أثر معرفته بالمصطلحات الفلسفية الصوفية والهندوسية. وربما يكون تلقى التعليم التقليدي التأملي الهندوسي أو الصوفي، لكن من الواضح، على أية حال، أنه لم يتخذ حياة الناسك المحترف أسلوباً له، أو انسحب من العالم ليكرّس نفسه لإماتة الجسد، بل سعى حصراً إلى الحياة التأملية جنباً إلى جنب مع حياته الداخلية وتعبيرها الفني في الموسيقى والكلمات، إذ إنه كان موسيقياً ماهراً مثلما كان شاعراً ماهراً.

عاش داس حياة الحرفي الشرقي بكل شؤونها. وتتفق القصص المتداولة عنه كلها حول هذه النقطة؛ أنه كان نسّاجاً ورجلا بسيطاً غير متعلم، والنّول هو مصدر عيشه. وعرف كيف يجمع بين الرؤيا والحرفة في مزيج واحد، بل ساعد عمله اليدوي، بدلاً من أن يعيق، تأملاته. وعلى عكس ما يتوقع كثيرون، لم يكن داس ناسكاً، بل نفرَ من التقشف الجسدي الصارم، وكان متزوجاً وأباً لعائلة، وهي ظروف حياتية تحاول القصص الهندوسية ذات النمط الأحادي النزعة إخفاءها أو تأويلها.

نبعت غنائياته من قلب الحياة العامة، تلك الغنائيات التي عبّرت عن الحب الإلهي وحب العالم. وهنا تفصح أعماله عن طبيعة حياته؛ فهو يمجّد مرة بعد مرة الحياة البيتية، وقيمة وواقعية الوجود اليومي مع فرصة للزهد والحب، مبدياً ازدراءه للتقوى الظاهرية لـ "اليوجي"؛ "صاحب اللحية الكبيرة وخصلات الشعر المتلبدة الشبيهه بالعنزة" كما كان يصفه داس، ذلك "الذي يعتقد قبل كل شيء بضرورة الهرب من عالم يسوده الحب والبهجة والجمال، أي المسرح الملائم لمسعى الإنسان كي يجد الحقيقة الواحدة، المسرح الذي ينشر حبه في مختلف أنحاء العالم".

من الممكن تعريف شعر التصوف بوصفه رد الفعل الذي يجلبه الإحساس برؤيا الحقيقة من جانب، ويمكن تعريفه من جانب آخر بوصفه شكلاً من أشكال الاستشراف. ويمكن تعريفه بوصفه دعوة للتوسط بين نظامين؛ توجهُ محبٍّ نحو الله، والعودة إلى البيت لقول أسرار الأبدية إلى البشر الآخرين.

هكذا، يمكننا القول إن التعبير الفني الذاتي لهذا الوعي يمتلك شخصية مزدوجة أيضاً، إنه شعر حب ولكنه شعر حب مكتوب غالباً بقصد تبشيري.

أغاني كبير داس هي من هذا النوع، مجبولة بالغبطة ونزعة الخير في آن معاً. مكتوبة بالهندية الشعبية وليس باللسان الأدبي، وموجّهة إلى الناس لا إلى الطبقة الدينية. تخيلاته مستمدة من الحياة الخاصة ومن التجربة الصوفية.

يجسّد ما يعتقد به بأبسط الاستعارات، والاستجابة الدائمة للحاجات والعواطف والعلاقات التي يفهمها كل البشر؛ العريس والعروس، المعلم والتلميذ، الحاج والمزارع، الطير المهاجر، في كون لا حواجز فيه بين عالم الطبيعة وعالم ما فوق الطبيعة؛ كل شيء من خلق وإبداع الله.

دلالات

المساهمون