نيسان القسنطيني.. الزمن بعينَيْ فراشة

نيسان القسنطيني.. الزمن بعينَيْ فراشة

25 أكتوبر 2014
مقطع من لوحة في المعرض
+ الخط -

في روايته "كائن لا تحتمل خفته"، يتحدث ميلان كونديرا عن إمكانية اختصار مأساة حياة ما باستعارة الثقل. يضيف الكاتب التشيكي، في مفاصل أخرى من هذه الرواية، أنه ربما للسبب ذاته، يوضع على قبر الميت حجرٌ ثقيل ليبقى حيث هو مسجّىً، هامداً وقريراً.

الفنانة التشكيلية التونسية نيسان القسنطيني (1976) تحاول أن تقلّب هذه الصورة وتحرّر الأرواح الحبيسة تحت الصخور، في معرضها "طيران الفراشة أو أسطورة إيكاروس مستعادةً"، المستمر حتى 28 كانون الأول/ ديسمبر في "رواق سلمى فرياني" في ضاحية سيدي بوسعيد، قرب العاصمة التونسية.

تجمع الفنانة في أعمالها بين الفوتوغرافيا والفيديو والمجسمات النحتية. تنويع المتعة البصرية مقصود، لأن المنطلق الأساسي لهذه الأعمال هو ما تكتنفه حياة الفراشة من تألّقٍ وفجيعةٍ؛ فعمر الفراشة قصير، وهي، رغم خفّتها وجمالها وبهاء ألوانها، لا مهرب لها من نهاية سريعة ومأساوية، حيث يمزّقها الضوء وتتلاشى حيويتها وتصبح بلا حراك.

من هذا التوتّر الوجودي والفلسفي تصوغ نيسان القسنطيني مفرداتها التشكيلية، سعياً إلى فهم جدلية الانبعاث والامحاء. كأن الفراشة الصغيرة الدبقة، متناهية الخفة، تلخص بعضاً من حياة "الفراشة الثقيلة" التي هي الإنسان، وفق مبالغات مجازية. سموّ الإنسان وتطلعه إلى الطيران ماثل، هنا، بكثافة في سرديات الأسطورة، من إيكاروس وأجنحته الشمعية، إلى عباس بن فرناس وأذرعه الاصطناعية الضخمة.

قاعة العرض تتوسطها فراشة بيضاء عملاقة من عجين "الريزين" الطبيعي الشفاف. لا يحمل هذا العمل عنواناً، لكونه نموذجاً أصلياً لما هو مكرر، أي فناء الفراشة واندحار حياة الكائنات اللطيفة. أرادت القسنطيني من هذه "التنصيبة" أن تكون نقطة الارتكاز في المعرض، أو الخيط الهادي الذي يقود الزوار، من عالم النحت إلى عالم الفوتوغرافيا في القاعة المجاورة.

فراشات القسنطيني التي تبدو غائصة في السديم والغبار والغيوم تكاد تتفسّخ أمام العين. أما الضبابية والشفافية في الصورة فتأتي من تلاعبٍ دقيقٍ في استخدام عدسات مخصّصة للمعالجة بالبرمجيات الرقمية للصورة.قاعة العرض تتوسطها فراشة بيضاء عملاقة من عجين "الريزين" الطبيعي الشفاف. لا يحمل هذا العمل عنواناً، لكونه نموذجاً أصلياً لما هو مكرر، أي فناء الفراشة واندحار حياة الكائنات اللطيفة. أرادت القسنطيني من هذه "التنصيبة" أن تكون نقطة الارتكاز في المعرض، أو الخيط الهادي الذي يقود الزوار، من عالم النحت إلى عالم الفوتوغرافيا في القاعة المجاورة.

فراشات القسنطيني التي تبدو غائصة في السديم والغبار والغيوم تكاد تتفسّخ أمام العين. أما الضبابية والشفافية في الصورة فتأتي من تلاعبٍ دقيقٍ في استخدام عدسات مخصّصة للمعالجة بالبرمجيات الرقمية للصورة.

إن جسم الفراشة معدٌّ سلفاً، وفق هذه التقنية، إلى التلاشي والفناء.وتنهض تدرجات اللون الأبيض بوظيفة الإحالة إلى الحلم والتذكر والتخييل. فإقامة الفراشة ماثلةٌ في الغياب أكثر مما هي في الحضور، وما أن تخرج من الشرنقة وتحلّق قليلاً حتى يفنيها الضوء.

تتحول الفراشة في معيار والتر بنيامين إلى "إليغوريا" للفن. فمقدار حياتها ورفيف جناحيها الخاطف هو مثل بريق فكرةٍ تتداعى كالهواجس والأحلام لتمضي بلا توقف.


وإذا كان شارل بودلير قد استنبط "إليغوريا" مفعمة بالجمالية في شعره، فإن الفنانة التشكيلية نيسان القسنطيني تعمد إلى التقاط صور من زاوية فريدة للبنايات وناطحات السحاب في بعض مدن الخليج العربي، فتبدو وكأنها حي صناعي يطير في الفضاء ويحلّق متخلصاً من ثقله الحجري. وتتطابق صور الفراشات المحلقة والبنايات الحديثة التي اكتفت فيها الفنانة باستخدام اللونين الأبيض والأسود تماشياً مع لعبة الإبهار والعتمة.

فن الفيديو يسجّل حضوره في المعرض من خلال نموذجين فيلميين؛ صامت وآخر ناطق. الأول (5 دقائق) تركز فيه الفنانة على عنصر الحروفية، واستعراض تشكيليةِ الخطوط وتعرجاتها. أما الثاني (3 دقائق و40 ثانية) فهو مقطع يمثّل بريق أشعة الشمس على صفحة موجة بحرية تصطخب.

ومن شأن تنصيبة الفيديو كفن معاصر، نقل الأداء الحركي بجلاءٍ، والتعبير بالصوت والصورة للأخذ بيد المتلقي لفهم معنى اللحظة الخاطفة وبريق الفكرة. يكاد رفيف أجنحة الفراشات، في هذا المعرض، أن يكون موضوعاً بصرياً وفي نفس الوقن تمريناً روحياً لفهم جدلية الانبعاث والفناء.

المساهمون