يا إسكندرية تماثيلك عجايب.. أحوال شهودٍ صامتين على تاريخ الناس والمدينة
استمع إلى الملخص
- التغيرات الاجتماعية والثقافية: شهدت الإسكندرية تغيرات ديموغرافية وثقافية، حيث أثرت على تفاعل السكان مع التماثيل العامة، مثل "كاتمة الأسرار" لمحمود مختار التي تعكس قيم ثورة 1919.
- التحديات المعاصرة والاهتمام بالتراث: تواجه تماثيل الإسكندرية تحديات كالإهمال والتلف، مع جهود للحفاظ على التراث الثقافي، مثل إعادة تمثال الخديوي إسماعيل لموقع بارز.
لتماثيل ميادين وحدائق الإسكندرية، عاصمةُ مصر لنحو ألف عام قبل الفتح العربي الإسلامي وأكثرُ مدنها على ساحل البحر المتوسط ارتباطاً بالفنون الأوروبية، أحوالٌ تتغير مع الزمان والمكان. بالطبع، هي مثل تماثيل الفضاءات العامة في العالم في صلابة المعادن والأحجار، لكن ما يجرى لها وحولها يستحق جولة لاكتشاف ما الذي تغير، وكيف أصبحت اليوم، وما هي علاقة الناس بها.
وفق بيانات رسمية، تزايد تعداد سكان المدينة ليتجاوز خمسة ملايين ونصف مليون نسمة، وهو ما يجعل منها أكبر مدن البلدان العربية المطلّة على مياه البحار والمحيطات.
فهل تسمع تماثيلها صخب وضوضاء هؤلاء البشر؟ وهل تناهت إليها أنباء الأزمة التي أثارها، في تشرين الأول/ أكتوبر الماضي، طلاء تماثيل أسُود كوبري قصر النيل بوسط القاهرة وبيان نقابة التشكيليين المُدافع عن لونها البرونزي المميّز (الباتينا) في مواجهة هجمة فرشاة الزيت باللون الأسود، قبل أن تتراجع وزارة الآثار؟ وكيف يعي المارّة اليوم تماثيل مدينة ارتبطت بالفنون والعمارة عصراً تلو آخر، منذ أسَّسها الإسكندر الأكبر في العام 332 قبل الميلاد، إلى زمان تألّقها إسكندريةً خديوية بعمارة أوروبية إيطالية في القرن التاسع عشر، حين عرفت تزيين ميادينها بالتماثيل؟
"كاتمة الأسرار" ومحمود مختار
بين اتهام المسؤولين بالإهمال وتوهّم اعتداء إسلاميّين متشدّدين، استيقظت الإسكندرية، التي طوت ذكريات مجتمع كوزمبوليتاني بحر متوسطي لتشتهر بأنها معقل للسلفيّين، صباح الأحد السابع من نيسان/ إبريل 2016، لتجد تمثال "كاتمة الأسرار" للفنان محمود مختار وقد غادر قاعدته في حديقة الشلالات بالحي اللاتيني بالمدينة، وانهار تحتها، رأساً هنا وبقايا هناك. حينها لم يجد المسؤولون المحلّيون للتخفيف من وقع ما جرى إلّا القول بأن التمثال، المصنوع من الحجر الجيري، مجرد نسخة من التمثال الأصلي الموجود في متحف يحمل اسم الفنان (1891 - 1934) بالقاهرة.
اليوم نعود إلى الحديقة ذاتها، فنجد التمثال قائماً صامداً، وهو يجسد الرؤية التشكيلية لفنان انتمى إلى ثورة 1919 وقيمها التحررية الوطنية، واهتم بالمرأة المصرية، وبخاصة الريفية (الفلاحة).
تحمل المرأة كاتمة الأسرار الجالسة القرفصاء، وهي تسند رأسها إلى أعلى بذراعيها، وساقاها يمتدّان إلى الأمام، أسراراً يعجز الزمان عن حلّ ألغازها. ولو قورن العمل بتماثيل الفضاءات العامة المفتوحة في المدينة كافة، لانتبه الناس إلى تميزه في تعامل إزميل النحّات بتحرّر مع الجسد/ الكتلة، على نحو يثير الدهشة كلّما غيرت زاوية النظر مع التنقل حوله في دائرة كاملة.
يجاورُ "كاتمةَ الأسرار" تمثال محمود مختار للفنان طارق الكومي
ينهض التمثال فوق قاعدة كانت لتمثال أول رئيس لوزراء مصر نوبار باشا (1825 - 1899)، والذي استقرّ به المقام بعد ترحال بين ميادين المدينة بمدخل "أوبرا الإسكندرية" (مسرح سيد درويش). ولذا، فالقاعدة ما زالت تحمل تاريخ إنجاز تمثال نوبار (1936) بعد عامين من رحيل مختار، وعبارة "العدل أساس المُلك"، بالعربية فوق واجهة جانبية، وبالفرنسية فوق أُخرى.
أما السكندريون الزائرون للحديقة، فقد أضافوا فوق جنبات القاعدة ما يذكّر بأسرارهم هُم. نحتوا خربشات بأسماء إناث وذكور وخطوطٍ بقلوب فارغة، وبعض هذه الخربشات لا يخلو من مزاح وعناد، ككلمة "المشاكس". يجاور التمثال، في الحديقة ذاتها، تمثال يُخلّد الفنان محمود مختار، وقد استند بيد إلى كتلة من الحجر، ووضع الأُخرى في سرواله رافعاً رأسه، متطلّعاً إلى أعلى بدوره. والتمثال من أعمال الفنان المصري المُعاصر طارق الكومي، وإن كانت قاعدته لا تحمل ما يكشف عن اسم النحات أو أية معلومة أُخرى.
وعلى مقربة، وسط حديقة أصغر حجماً، يُطلَق عليها تسميه "ميدان الخرطوم"، يرتفع عالياً عمود يستند إلى قاعدة مربعة الأضلاع تتزين بتماثيل عدد من آلهة مصر الفرعونية، وبقاعدته هذه العبارة المنحوتة: "عمود من زمن البطالسة تذكاراً لاسترجاع الخرطوم في سنة 1898". وفي خلفية العمود، يتراءى للناظر مدخلا كلّيتَي طب وصيدلة الإسكندرية، وتتزاحم في الفضاءات المحيطة به وبتمثالَي "كاتمة الأسرار"، ومحمود مختار لافتات كبيرة ملوّنة، تنهض على أعمدة عالية، تروّج لمشروعات علاج خاصة لا يطيق تكاليفها معظم أهالي المدينة، فضلاً عن عمارات حديثة مرتفعة غير متناسقة في طُرزها، ذات واجهات زجاجية متنافرة الألوان، تحتها أفرع لبنوك أجنبية ولافتاتها بالحروف اللاتينية.
عودة الخديوي إسماعيل
تُفيد مطالعة كتاب "تماثيل الخالدين في ميادين القاهرة والإسكندرية"، الصادر عام 1995 والعدد الخاص عن المدينة الصادر عن "مكتبة الإسكندرية" في تموز/ يوليو 2018، بأن العديد من التماثيل التي تخلّد الشخصيات من أعلام الحُكم والسياسة ارتحلت إلى غير مكان، بل كان عليها، نتيجةً لتغيّر نُظم الحُكم وتوالي الحُكّام، أن تنزوي بعيداً عن المارّة، ولفترات في المخازن والظلّ.
لذا لم أدهش عندما سألتُ غير سكندري يقيم بالقرب من تمثال الخديوي إسماعيل، فقالوا إنه للخديوي توفيق، أو إنهم لا يعرفونه. لكن في صباح باكر، أجابني بثقة عامل نظافة شابّ يعمل بمكنسة بدائية بجوار رصيف يطلّ عليه التمثال بأنه للخديوي إسماعيل.
تختفي تماثيل السياسيين وتعود بتغيُّر الحكّام ونُظُم الحُكم
وكان التمثال، الذي أنجزه الفنان الإيطالي بترو كانونيكا عام 1927 بتحفيز ودعم مواطنيه من الجالية الإيطالية السكندرية في عهد الملك فؤاد، يحتلّ قبل ثورة تموز/ يوليو 1952 موقعاً مميزاً يطلّ على كورنيش الإسكندرية، متوسطاً قوساً للنصر في دائرة غير كاملة، يُحاكي نُصباً تذكارياً للجندي المجهول في روما. وقبل نحو عشرين سنة، جرى استدعاء تمثال الخديوي إسماعيل من النسيان في مخازن "كلّية الفنون الجميلة" بالمدينة، وهو مصنوع من البرونز وفي سترة محلّاة بالنياشين مستنداً بيده اليسرى إلى سيف، إلى فضائه الجديد بقلب الإسكندرية على مقربة من محطّة مصر للسكك الحديدية، التي تعود إلى منتصف القرن التاسع عشر.
يعطي الخديوي إسماعيل ظهره لمبنى المحطة التاريخي ولعمران أوروبي يُنسب معظمه إلى عهده، ويحمل تسمية "الإسكندرية الخديوية"، ويتّجه برأسه شاخصاً من الأعالي إلى "أمير"، واحدة من أعرق دور السينما بالإسكندرية، وجمهور لا يبالي بحضوره وهو يتزاحم للدخول إلى عروض أفلام تجارية، أصبح أبناء جيل يوسف شاهين وصلاح أبو سيف وكمال الشيخ لا يعرفون صناعها، ولا يستسيغون عناوين أفلامهم. أما نصب الجندي المجهول في الإسكندرية، والمطلّ على كورنيش البحر قرب ميدان المنشية، فيخلو الآن من أي تمثال، كما اختفى من فضائه الجنديان اللذان كانا في حركة استعراض دائمة يحملان بندقيتين عتيقتي الطراز، تحيةً لذكرى شهداء الوطن. وهكذا طال الإهمال كلّ المَعلم التذكاري.
نوبار باشا ضد سيّد درويش
غادر تمثال نوبار باشا، الأرمني (أول رئيس لوزراء مصر عام 1878) غربته بعيداً عن الشمس والناس لنحو أربعين عاماً، حيث كان خلف ما أصبح "مكتبة الإسكندرية العالمية"، ليستقرّ الآن بالباحة المفتوحة لأوبرا المدينة (مسرح سيد درويش)، بعدما أقام قبلها وأولاً بحديقة الشلالات، تاركاً بلا منطق قاعدته لـ"كاتمة الأسرار".
والتمثال من صنع الفنان الفرنسي بوشيه، الذي نحته ونقله من بلاده إلى الإسكندرية ليبقى وسط الحديقة منذ عام 1901 حتى الستينيات. والآن يستقبل نوبار، مطلياً بلون بنّي قاتم، القادمين إلى "مسرح الأوبرا"، جالساً على مقعده، وتحت قوائمه دفاتر مفتوحة، وكأنها تحفظ أسرار وألغاز وألاعيب بيروقراطية متعالية على المصريين.
عاد تمثال نوبار باشا بعد أن أُبعد عن الشمس والناس لنحو أربعين عاماً
وعلى بعد أمتار بمدخل الأوبرا المفتوح للسماء، تمثال للموسيقار السكندري الشيخ سيّد درويش، الملقّب بـ"فنان الشعب" وثورة 1919، من النحاس بين الأحمر والأصفر، جالساً بدوره. وبملامح أكثر ألفة يسند العود إلى ساقيه. وهو من أعمال الفنان جابر حجازي؛ أحد أعمدة التدريس في "كلّية الفنون الجميلة" بالإسكندرية. إلّا أنّ نوبار باشا يشغل المكانة الأهم بباحة مدخل الأوبرا كتلةً وموقعاً، مُزيحاً صاحبها ومن تحمل اسمه عن مركز فضاء استقبال الجمهور.
محمد علي في غمار الإسكندرية الشعبية
يفصل بين تمثالَي سعد زغلول، زعيم ثورة 1919 ومؤسس "حزب الوفد"، وبين محمد علي باشا الملقّب بـ"مؤسّس الدولة المصرية الحديثة"، أقل من ربع ساعة على الأقدام، لا بل 114 عاماً بين تولي الباشا الحُكم عام 1805 واندلاع الثورة.
ويحتل الحاكم الباشا، وهو يمتطي حصانه ويعتمر عمامته، أضخم وأرحب ميدان بالإسكندرية: "المنشية" وسابقاً "القناصل". وهذا الميدان، مستطيل الأبعاد، شهد أحداثاً تاريخية من بينها محاولة اغتيال الرئيس الأسبق جمال عبد الناصر عام 1954 وخطاب تأميمه لقناة السويس في 1956.
وتقول كتب التاريخ إن معظم أبنية الميدان أُعيد بناؤها بعدما دمرتها مدافع بحرية القوات البريطانية الغازية للمدينة ولمصر خريف 1882، وذلك بعد نحو عشر سنوات فقط من وضع تمثال محمد علي في الميدان عام 1872، والذي أنجزه النحات الفرنسي ألفريد جاكمار، وعرضه أوّلاً في شارع الشانزليزيه بباريس.
يبدو التمثال، من بعيد وعبر الأضلاع الأربعة للميدان، مرتفعاً متعالياً على صخب الباعة العشوائيين وزحام الناس الرائحين الغادين حتى ساعات متأخرة من الليل بحثاً عما يحتاجون بأسعار زهيدة.
يُطل محمد علي باشا، هنا وسط حديقة مهملة تتخللها مساحات جدباء، على تناقضات تجمع الأبنية الضخمة الراسخة لعمارة أوروبية بين القرنين والتاسع عشر والعشرين، ومن أشهرها "مبنى الحقانية"، المحكمة المختلطة سابقاً تحت الترميم حالياً، و"فرشات" بسطات مؤقته لباعة كل شيء يتواضع ثمناً ويقل جودة. وهكذا على نحو يمكنهم من الطيران ببضاعتهم عند قدوم شرطة البلدية، إذا جاءت في حملات أصبحت نادرة.
محمد علي.. أوّل تمثال يجسد شخصاً بعينه يوضع في ساحة عامّة بمصر
حتى باعة الأسماك والأصداف والكائنات البحرية الشعبية، مثل "أم الخلول" و"البكلويز"، وجدوا على مقربة من محمد علي باشا متّسعاً لعرض بضاعتهم فوق الأرصفة، والمناداة عليها، مع باعة ملابس نساء داخلية وياميش رمضان ولعب أطفال في متناول "الغلابة". وربما لا يتنبه العديد منهم إلى وجه الباشا المتجهم الصارم وهيبة عمامته ولحيته، وهو يعدو مسرعاً تجاه الغرب بفرسه المحارب نحو شارع فرنسا.
وإذا سألت هؤلاء الباعة القادمين من مناطق شعبية وشبه ريفية مهمشة بأطراف المدينة أو من أقاصي الصعيد الطارد لأهله جرّاء ضيق الرزق والأرض الزراعية وضعف التنمية الصناعية والخدمية الحديثة، لقالوا لك بكل ثقة: "ده محمد علي" من دون ألقاب. وفي الأغلب بلا معرفة ماذا كان شأنه بالنسبة إلى مصر والإمبراطورية العثمانية وممالك أوروبا.
ويسود اعتقاد، تتناقله صحف مصرية بأن محمد علي في المنشية هو أول تمثال يجسد شخصاً بعينه يوضع في ساحة عامة بمصر، بل في تاريخ العالم الإسلامي الحديث. كما أخذت هذه الصحف مؤخراً تتداول معلومة غير صحيحة، تربط بين إصدار الشيخ الإمام محمد عبده فتوى لا تحرّم صناعة التماثيل وعرضها طالما ليست للعبادة أو محلّ تقديس وبين احتجاج أهالي الإسكندرية على تمثال محمد علي بتحريض من رجال دين حينها. علماً بأنّ الإمام لم يتولّ مسؤولية الإفتاء إلّا في 1889، أي بعد وضع التمثال بالإسكندرية بنحو 17 عاماً.
سعد باشا مغادراً المدينة
على خلاف بيئة الأسواق الشعبية العشوائية، يقف تمثال سعد باشا زغلول قرب محطة الرمل الرئيسية للترام منذ ثلاثينيات القرن العشرين. يسكن حديقة أقل مساحة من حديقة محمد علي باشا بالمنشية. لكن، بحكم الجيرة مع قاطني أعرق فنادق الإسكندرية وأفخمها مثل "سيسيل"، يتمتع سعد بنظافة محيطه الأخضر محل العناية والتنسيق. وتشغل أطراف حديقته نحو أربعين شجرة نخيل باسقة.
ويلف سعداً الهدوء والسكينة في أغلب ساعات اليوم، مع لطف زائريه السائحين الأجانب أو من أحفاد الأفندية المصريين، حيث يحرصون هنا على التقاط صور للذكرى بالحديقة، دون جلبة أو ضوضاء.
اللافت أن تمثال سعد يظهر هنا بالاسكندرية أكثر أهمية من آخر له، بإزميل الفنان محمود مختار أيضاً، في منطقة الجزيرة بنهاية كوبري قصر النيل الواصل بين القاهرة والجيزة، على مقربة من ميدان التحرير. وبقاعدة تمثال الإسكندرية، لوحات نحت بارز، منها ما هو مصري قديم، وما هو معاصر يؤرخ لنشاط سعد باشا السياسي عشية ثورة 1919، وتبرز بينها لوحة تُظهره زعيماً محمولاً فوق أكتاف الجماهير.
والناظر إلى سعد الإسكندرية، يلاحظ كيف يتقدم بقدمه اليسرى في معطف شتاء وطربوش تركي/ مصري حاثّاً الخطى نحو البحر، وقد أعطى ظهره للمدينة وعمرانها وناسها وصخبها، مرتفعاً ملغزاً في برونزية مؤكسدة داكنة بين الأسود والأخضر.
تمثالٌ ولوحات تؤرخ لنشاط سعد باشا السياسي عشية ثورة 1919
تبدو قدما سعد تخوضان في السحاب في صباح شتوي بارد، وهو يعلو قاعدة غراتينية تستدق إلى أعلى لا تتسع إلا لحذاء قدميه. ولعل اتجاه حركة ونظر سعد إلى لا نهائية مياه البحر والمجهول خارج عمران المدينة يُغري بعض رواد المقاهي الكبرى القريبة الأثيرة عند المثقفين والسائحين المحليين على كورنيش وسط الإسكندرية مثل "الوطنية" و"التجارية" لاستدعاء مقولته اليائسة وبسخرية: "مفيش فايدة".
الإسكندر على حصان ممسكاً الأيقونة اللغز
بين منتهى الصخب الشعبي بالمنشية وهدوء أرستقراطية وبورجوازية الرمل، يحتل تمثال الإسكندر الأكبر ساحة حي شرق. ويقع في ما أصبح ميدان عبد المنعم رياض، رئيس أركان الجيش المصري الشهيد على جبهة قناة سويس إبان حرب الاستنزاف عام 1969. وكانت ساعة شهيرة تشغل مركز فضاء الميدان، ولم يتبق منها الآن إلا بقايا وذكرى الدائرة المزروعة بالعشب الأخضر. وهكذا اختفت عقارب الساعة منذ بضع سنوات، ومعها تسمية "ميدان الساعة" أو "ميدان الزهور".
ينهض الإسكندر الأكبر، مؤسس المدينة نحو عام 332 قبل الميلاد، فوق حصانه الجامح بملابس المحارب الإغريقي في تمثال من البرونز الداكن، مطلّاً على طريق الحرية (شارع أبو قير سابقاً)، بمعالمه القديمة العريقة والجديدة، وهو محور رئيس يربط بين وسط المدينة وشرقها، ويقتفي مساراً موغلاً في القدم.
وعلى مقربة من موقف سيارات أجرة عامر بالقادمين والغادين لأنحاء المدينة (مشروع بلغة السكندريين)، يمسك الإسكندر الأكبر بيده اليمنى أيقونة صغيرة لإلهة النصر عند الإغريق. إلّا أن كتابات بالصحافة المصرية إلى اليوم تقول بأنّها "حمامة سلام" يطلقها للعالم.
ويبلغني سائق "مشروع" محاولاً إثارة الدهشة، من دون اكتراث بكنه الأيقونة حمامة أم معبود النصر أو أشياء أُخرى، بأنّ شاباً ظهر هنا قبل سنوات كان يحاول استخلاص التمثال من بين قبضة الإسكندر الأكبر باستخدام منشار حديدي، فألقوا القبض عليه. ويضحك ساخراً من سذاجة ما جرى، مشيراً إلى مبنى قسم باب شرق على مقربة. إلّا أنّ السائق لم يُفصح عن تفسير لرواية أو أسطورة السرقة الشائعة إلى اليوم: هل الغرض الإتجار والكسب أم لاعتبارات دينية متزمّتة؟
يمسك الإسكندر الأكبر أيقونة صغيرة لإلهة النصر عند الإغريق
لا شيء بقاعدة التمثال يفصح عن صانعه، وهو الفنان اليوناني كوستنتينوس باليو لوجوس. فقط جُمل مختاره للشاعر أحمد شوقي والكاتب محمد حسين هيكل عن الإسكندر الأكبر ومدينته. وبصعوبة بالغة يمكن قراءة بعض سطورها المحفورة بنحت غائر فوق قاعدة رخامية مزركشة معتمة.
ويقول باحثون إسكندريون إنّ التمثال مشابه لنسخة أقدم بمدينة سالونيك موطن الإسكندر الأكبر، وإنّ بقايا الجالية اليونانية أهدته عبر "جمعية الصداقة المصرية اليونانية" كي يوضع في هذا المكان لمناسبة افتتاح "مكتبة الإسكندرية" عام 2002.
والزائر للمكتبة لليوم سيجد تمثالاً دقيق الملامح لرأس الإسكندر الأكبر، ضمن فضائها الخارجي المفتوح للسماء قرب شاطئ البحر المتوسط (البلازا أو ساحة الحضارات)، وهو من نحت الفنان اليوناني أيضاً جون باباس، أهدته وزارة الثقافة اليونانية لمناسبة افتتاح المكتبة.
حصّة طه حسين
كان "عميد الأدب العربي" أوّل رئيس لـ"جامعة الإسكندرية" وعميد لكلّية آدابها، عندما حملت عند التأسيس عام 1942 تسمية "جامعة فاروق الأول". وخلف المبنى الإداري للجامعة بشاطئ حي الشاطبي بطرازه المعماري ولونه الأحمر المميز، يظهر تمثالٌ لطه حسين ووجهته نحو المبنى، جالساً مستنداً بيده اليسرى إلى ما يشبه عصا معلقة في الهواء.
يتوسط التمثال حديقة مسيجة بسور حديدي، تفصل بين المبنى التاريخي وعمارات سكنية تلوح من شرفاتها ملابس تطلب الشمس لتجففها. وما مررت بالحديقة إلّا وجدتها مغلقة، يضرب الإهمال جنباتها، وتستوطنها كلاب ضالة يُبعد هياجُها ونباحها من يتقرب. ولا توضّح لافتة رخامية تؤرخ لإقامة الحديقة والتمثال بالعام 2001 من هو صانع التمثال.
وخارج أسوار حديقة طه حسين ترك أساتذة الجامعة سياراتهم الخاصة، وبينها أكوام من القمامة. أما حالة التمثال نفسه وقاعدته، فلا تسرّ حداثياً يعرف فضل طه حسين على الثقافة والتعليم الحديث أو عدوّاً يتهمه بالتغريب والضلال.
لكن، داخل مكتبة الإسكندرية وبين طوابق يصطف على رفوفها نحو مليوني كتاب، يجد طه حسين بيئة أفضل ومحيطاً أكثر ملاءمة، وإن انتهى مروري بمحيط التمثال من كل الزوايا بمصادفة كتاب تركه أحد رواد المكتبة بعنوان "السحر وتحضير الأرواح".
على أي حال، هنا يظهر عميد الأدب العربي، من خلال تمثال الفنان عبد الهادي الوشاحي، في تشكيل انسيابي يترجم سمته وجوهره العملاق، متطلعاً بشموخ إلى أعلى، واضعاً يده اليمني إلى ركبة الساق، كما كان يظهر في جلسته. وهو هنا بين مجموعة تماثيل نصفية وكاملة تزين أرجاء المكتبة بالداخل، وبعضها لأعلام في الثقافة والأدب بمصر.
أربعةٌ كانوا يسكنون "حديقة الخالدين"
إذا بحثت عن تماثيل لشخصيات لها حضور في التاريخ الوطني بالإسكندرية، مثل حاكم المدينة محمد كريم الذي رفض تسليمها لعسكر نابليون ونظّم المقاومة الشعبية ضد الحملة الفرنسية، وحسن باشا الإسكندراني الملقب بـ"أمير البحار" قائد الأسطول البحري زمن محمد علي باشا، ستعلم أن أحوالها تبدلت خلال السنوات القليلة الماضية، ومعها مجاوروها: عبد الله النديم الخطيب والصحافي الثورة العرابية وسيد درويش.
صحيح أنها ما زلت باقية في مكانها حيث كانت "حديقة الخالدين"، في الطرف المقابل من محطة الرمل على كورنيش المدينة لموقع تمثال سعد زغلول. وهذه الحديقة كانت مركز الأحداث الجماهيرية لثورة يناير بالإسكندرية، وهي في الأصل تطل على المبنى التاريخي للمقر الإقليمي لمنظمة الصحة العالمية وجامع القائد إبراهيم.
لكن محيط إقامة التماثيل الأربعة تغير منذ سنوات معدودة من المروج الخضراء إلى "حديقة الخالدين"، ومن قبل "حديقة فريال" (الأميرة شقيقة الملك فاروق) في الأربعينيات، مع مقاعدها الرخامية الجميلة لالتماس الراحة والتأمل والسكينة لعموم الزائرين إلى مجمع مغلق مسقوف لكافيتريات ومطاعم، أغلبها يحمل لافتات بأسماء أجنبية، وهذا في سياق ما أصبح ملحوظاً بمصر خلال السنوات الأخيرة من التغول على الفضاءات العامة المفتوحة للناس كافة، ومصادرتها وبيعها وتأجيرها وخصصتها، لتصبح حكراً على من يستطيع أن يدفع أكثر. وقد نال كورنيش وشواطئ الإسكندرية العامة الكثير من ذلك، كما شواطئ نيل القاهرة والمدن الكبرى. وهكذا أصبح العديد منها محجوباً عن الناظرين، ومحرماً دخولها على من لا يملك أن يدفع للمستثمرين مستغليها الجدد لغرض الربح.
المفارقة الآن أن تجد هذه الشخصيات في تماثيلها النصفية، حين كانت تبرز ملامح الوجوه، وقد نال منها الطلاء باللون الأسود. هذا الذي نجت منه أسُود قصر النيل. وفي عتمة الليل، يبدو محمد كريم وأمير البحار والنديم وسيد درويش أشباحاً بلا ملامح. يصعب تبيّن لمن هي، أو ما هو مكتوب تحت قاعدة كلّ منها. وتزيد حالها بؤساً هذ الأضواء التي تتركز على واجهات مقاصف الطعام والشراب. فهل أصبحت تستحق الانتباه، وهي على هذا الحال، وممّن يقصد طعاماً على السريع أو لقاءً عابراً مع فنجان قهوة؟