وليد سيف.. حين استعاد تاريخ الأندلس

30 مايو 2025
وليد سيف (تصوير: محمود الخطيب)
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- يروي وليد سيف قصة التنافس بين الشاعر ابن زيدون والوزير ابن عبدوس على قلب ولادة بنت المستكفي، حيث يتفوق ابن زيدون ببلاغته، بينما يدرك ابن عبدوس أن خصمه الحقيقي هو طموح ابن زيدون المفرط، مما يعكس تقلبات العاطفة والسياسة.

- يسلط سيف الضوء على تأثير العصبيات القبلية في التاريخ الإسلامي، موضحًا كيف أن الإسلام لم يتمكن من تفكيكها، مما أدى إلى صراعات داخلية وإقصاء العرب لصالح عناصر أعجمية أكثر ولاءً للدولة.

- يقدم سيف في مشروعه الأدبي حول الأندلس قراءة موضوعية للتاريخ الإسلامي، بعيدًا عن الأيديولوجيات، مع التركيز على مفهوم السلطة وتوازنات الحكم، مما يعكس تأثيرات الماضي على الحاضر.

يكثّف وليد سيف، في سطور قليلة، سرده لتلك المنافسة التي جمعت الشاعر ابن زيدون والوزير ابن عبدوس على قلب ولادة بنت المستكفي، والتي حفلت بإشارات وأقاويل عديدة في المصادر التاريخية. يختار أن يبتدئ بعجز الوزير أمام بلاغة الشاعر، ليصل إلى خلاصة تمنح تلك الوقائع فهماً أدق لطبائع البشر، وتأملاً أعمق في مصائرهم، حيث يكتب أن ابن عبدوس أدرك أن خصمه الأكبر ضد ابن زيدون، هو ابن زيدون نفسه؛ باندفاعه وثقته المفرطة بنفسه وطموحه الواسع. روح شاعر وثّابة تشبه النار، تأكل بعضها بعضاً، في تضاد مع روح رجل دولة تحاكي الماء في ركودها، بانتظار تقلّب العاطفة وأحوال السياسة.

هو منظور يحكم الشاعر وكاتب الدراما الفلسطيني (1948)، في قراءته لتاريخ الأندلس، بل والتاريخ عموماً. وقد تولّدت أفكاره الأولى أثناء استكمال دراسته العليا في لندن، بداية السبعينيات، حين طرح تساؤلاته حول مفهوم القبيلة عند العرب، وتنظيماتها المتطوّرة، وتعدّد أنماط إنتاجها، وقدرتها على الاستمرار رغم التحولات المادية والثقافية، واختلاف ذلك عن الثقافات الأخرى.

يمسك سيف بتأثير البعد القبلي على محطّات أساسية في سيرة الإسلام والمسلمين؛ منذ إنشاء الجيش في المدينة المنوّرة، ومروراً بحرب الردة، والفتنة الكبرى، والنزاع على السلطة زمن الأمويين والعباسيين وما بعدهما، إلى انتشار الدين وسيطرة أصحابه على جغرافيا تمتدّ من الصين إلى غرب أوروبا، كما يشرح في كتابه "الشاهد المشهود: سيرة ومراجعات فكرية" (2016، دار الأهلية للنشر والتوزيع).

سؤال القبيلة

يرى سيف في الكتاب ذاته أن الإسلام هزم إمبراطوريتين عظيمتين وبنى إمبراطورية واسعة، لكنه لم ينجح في تفكيك العصبيات القبلية، وبالتالي لم يتمكّن من خلق كيان عربي موحّد تختفي فيه هذه الهويات والعُصب. وعليه، فإن صراع القبائل العربية على الحكم، والتنازع العنيف داخل الأسرة الأموية نفسها، دفع الدولة العباسية إلى إقصاء العرب وإحلال عناصر أعجمية أكثر ولاءً للدولة، وأكثر انخراطاً في جيوش نظامية، بدلاً من الائتلافات القبلية الهشّة. وقد بدأ ذلك من عهد المعتصم، حيث خرج معظم العرب من ديوان الجند، وهيمن الأتراك على جيش الدولة.

ينسحب الأمر نفسه على حال الدولة الأموية التي أسّسها عبد الرحمن الداخل في غرب العالم الإسلامي آنذاك، بحسب توصيف صاحب مشروع الأندلس (الذي تبلور في مسلسل بثلاثة أجزاء أخرجها حاتم علي بين 2002 و2005، ثم أصدرها في روايات مستقلة بين 2021 و2025)؛ للمرحلة التي شكّلت هاجساً معرفياً، ومشغلاً إبداعياً في الدراما والرواية.

استحضار التاريخ الإسلامي ليس تعويضاً عن هزيمة راهنة 

ينبّه سيف إلى أن "صقر قريش" سار على نهج العباسيين في "إقصاء القبائل العربية، وكسر شوكتها، والاعتماد بدلاً منها على عناصر أجنبية، وهم الصقالبة من ذوي الأصول الأوروبية، على طراز مماليك الشرق" (الشاهد المشهود).

لم يُبْنَ هذا الاجتهاد على عجالة، بل تطلّب نحو أربعين عاماً من الحوارات والتأملات، قبل الشروع في كتابة مشروع يغطي حوالي ثمانية قرون، لم تتّسع إمكانيات الواقع والتخييل لإنهائه بجزء رابع يُصوّر/ يُفسّر سقوط غرناطة، لأسباب لا تزال غير واضحة تماماً حتى اليوم. فكما يتلقّى المشاهد جرعة الدراما بمتعة وحنين إلى ماضٍ مليء بالأمجاد والمرارات، يأخذ المؤلف قارئ رواياته الأندلسية إلى الماضي بذهن صافٍ، وتسلسل واضح في بناء الأحداث، وبموضوعية لا تكترث بمواقف أيديولوجية مسبقة، ولا تقع في فخ البطولة المجانية، ولا تعيد إنتاج خطاب استشراقي عن التاريخ الإسلامي، بل تُخلص لواقعها ومعطياته، في معادلة لا تمجّد الماضي ولا ترتهن له، وتفترض تعدّد الروايات حوله، واستحضاره لا يكون تعويضاً عن هزيمة راهنة، ولا يمارس إكراهاته على وعي الإنسان العربي اليوم.

رجل يملك نبوءة يصدّقها

هل استحضر وليد سيف سيرة الأموي الذي بدّل نهايته إلى نهضة جديدة لسلالته، دون تحيّز يُعليه على خصومه العباسيين في سماته الشخصية ومطامحه السياسية؟ الجواب لا يغفل إقرار الكاتب نفسه باستحالة ادّعاء الحياد في تصريحات سابقة، لكنه يستدعي التفكّر في ما وراء هذا الانشغال المعرفي والإبداعي بالدولة الأموية عشية سقوطها، وفرار حفيد هشام بن عبد الملك إلى الأندلس ليتسيّدها ملكاً. إنها لحظة مفصلية خلّقت تصوّرات راسخة لكل ما يتداوله المسلمون عن تاريخهم طوال ألف وأربعمئة عام، من إنشاء مدونة الفقه والفتوى، إلى ترسيم المؤسسة الدينية جزءاً من السلطة. بذلك، يُصبح من الأجدر التساؤل عن منطلقات سيف في تفكيك المرويات السائدة، وتسليط الضوء على مروية أندلسية مهمّشة، خارج الجدل المحتدم في المشرق وما أفرزه من توترات واضطرابات بين المذاهب والطوائف الإسلامية، التي لا تزال مستمرة حتى اليوم.

في الجزء الثاني من رواية "النار والعنقاء: صقر قريش"، يتوجّه عبد الله بن علي – عمّ أبي العباس السفاح وأبي جعفر المنصور – إلى أخيه صالح بالقول: "لكنها غدت عندي مسألة رجل لرجل: رجل يملك السيف والسلطان والعساكر في بلاد الشام.. ذاك هو أنا، ورجل لا يملك إلا إرادته، وغاية يطلبها، ونبوءة يصدقها.. ذاك عبد الرحمن بن معاوية".

لا نلمس حدوداً واضحة بين متون المراجع ونص سيف، الذي يصدر مراجعات فكرية للحدث واشتراطاته الإنسانية. ويبرز موقف عبد الرحمن الداخل من حليفه أبي الصباح اليحصبي، زعيم القبائل اليمانية في إشبيلية، بعدما سانده في تثبيت حكمه، ثم تمرّد عليه، فنال جزاءه بالقتل. وقد برّر لمولاه بدر المقتلة قائلاً: "الدولة والقبيلة لا تجتمعان.. الدولة عصبة كل رعاياها، والقبيلة عصبة أبنائها.. الدولة يجب أن تجمع، والقبيلة تفرّق".

صدرت رواية "النار والعنقاء" عام 2021، ويوضّح جزؤها الأول "الرايات السود" أسباب انهيار الدولة الأموية في فترة تولّي الخليفة هشام بن عبد الملك، حيث يظهر خلافه مع وليّ عهده، ابن أخيه الوليد بن يزيد، إذ أراد تولية ابنه معاوية، لكن الأخير لقي حتفه في رحلة صيد، وسط تصدّع التحالفات مع الولاة في الأمصار، وسخط القبائل على مسار الأمور، وتجهّز بني العباس للثورة في معقلهم الحميمية بأرض البلقاء.

يخضع السرد الروائي لتسلسل الأحداث التاريخية، إلا أنه يكتظ بنبوءات يُرجَّح أنها خرجت عنها، سواء في التخوّف من رايات سود غازية من الشرق تُسقط ملك الأمويين، أو في تأمُّل مسلمة بن عبد الملك في وجه عبد الرحمن بن معاوية مبشِّراً بحكمه الأندلس. وربما هو استدعاء لوقائع الأمس برؤية الحاضر، يركّز همّه على الوقوف عند مفهوم السلطة، وغياب توازنات الحكم، والانزلاق إلى ولاءات فرعية تهدّد بقاء الدولة.

مواعيد القدر

ينتقي سيف بؤرة ثانية في سرد تاريخ الأندلس، كما قدّمها في روايته "مواعيد قرطبة"، من خلال حكاية المنصور بن أبي عامر، القادم من الهامش أيضاً، في صورة تتقاطع في بعض جوانبها مع عبد الرحمن الداخل. ومن أبرز هذه الجوانب تركيزه على الجارية صبح البشكنجية، التي حظيت بقرب العديد من الخلفاء، وتقارِب في بنائها شخصية بدر، مولى صقر قريش، إذ يتجاوز دورها في تمكين ابن أبي عامر، لتغدو، في المسلسل والرواية، نظيره في الذكاء والدهاء.

يضيء مروية مهمشة في مواجهة المرويات العباسية السائدة

غير أن المنصور، بعد تولّيه الحكم، وقف في المكان ذاته الذي اختاره صقر قريش لبناء أول قصوره في الأندلس، وأنشد أبياتاً تُنسَب إليه، منها: "تبدّت لي وسط الرصافة نخلةٌ/ تناءتْ بأرضِ الغرب عن بلد النخلِ/ فقلتُ شبيهي في التغرّب والنوى/ وطولِ التنائي عن بنيّ وعن أهلي". وعند سؤاله عن تعلّقه بعبد الرحمن الداخل، أجاب:
"لا أشبهه إلا لأفارقه"، مشيراً إلى أنه لم يكن أميراً صاحب نسب مثله، لكنه اقتدى بأثره في حفظ الدولة وإقامة العدل. شعارٌ لم يصمد أمام نظام مستبدّ أرساه ابن أبي عامر، والذي خلّف بعد وفاته فراغاً مهولاً، تسبب في تفسّخ الدولة إلى دويلات طوائف هزيلة.

تعميق المأساة الإنسانية

في الجزء الثالث من مشروع الأندلس، الصادر حديثاً بعنوان "خريف إشبيلية: الطوائف"، يحار المعتمد بن عباد في الظروف التي أُتيحت له لتوحيد بلاد تمزّقت بعد سقوط حكم الأمويين، حيث إن استعادة غرناطة اشترطت تحالفه مع جند قشتالة ضدّ إمارة مسلمة، وسط فوضى من الوشايات والدسائس بين ملوك الطوائف الذين تقاسموا دويلات حكموها باستبداد سهّل قدوم الغزاة. وهو إسقاط لا يقصده وليد سيف مباشرة، بل تسوقه أحداث الأمس، التي تكاد تقترب من تاريخنا المعاصر.

ينسج الأدب، ونصوص الشعر خاصة، مسار الوقائع التي يحرص وليد سيف على روايتها في إطار تعميق المأساة الإنسانية، وتكثيف لحظات الضعف والانكسار التي لا تعبّر عنها المدونات السياسية، ومنها أبيات شعر المعتمد، الذي أسره يوسف بن تاشفين في بلدة أغمات بالمغرب حيث توفّي، وجاء فيها: "نعم، هو الحق حاباني به قَدَرٌ/ من السماء فوافاني لميعادِ/ ولم أكن قبل ذاك النعش أعلمه/ أن الجبال تهادى فوق أعوادِ".

إرث الانحطاط الثقيل

تتعدّد القراءات حول دخول العرب المسلمين إلى الأندلس، وطبيعة إدارتهم لها، وما شابها من أخطاء آلت إلى إخراجهم منها، دون إغفال حضارة شاركت في ازدهارها ثقافات متعددة. قد تكون قراءة وليد سيف من أكثرها تأثيراً في إبراز الحراك الاجتماعي والثقافي، ضمن سياق يستند إلى عوامل مادية، تأخذ في الاعتبار البعد الاقتصادي والتفاوت الطبقي، ترجمةً لعبارته: "فالماضي لا يتحدث عن نفسه؛ إنما نحن من ينطق به وعنه! وإنه لا يصنعنا إلا بقدر ما نصنعه".

المساهمون