وقفة مع نبيل عبد الكريم

وقفة مع نبيل عبد الكريم

28 يونيو 2021
(نبيل عبد الكريم)
+ الخط -

تقف هذه الزاوية مع مبدع عربي في أسئلة حول انشغالاته وجديد إنتاجه وما يودّ مشاطرته مع قرّائه."مسار الكتابة أشد وعورة من أي مسار آخر، وتعبيده يحتاج لهاثاً متواصلاً وطاقة هائلة وساقين لا تعرفان الكلل"، يقول القاص الفلسطيني الأردني لـ"العربي الجديد".


ما الذي يشغلك هذه الأيام؟
تشغلني البوذية بوصفها فلسفة وجودية لا صراع فيها مع النفس، ولا تناقضات مع الآخر، ولا ثنائيات بين الذات والوجود من أي نوع. 

تعلمنا البوذية أن الوجود قائم على الوحدة التي لا ثنائيات ضدية فيها، وتتحقق الوحدة عبر تحييد الأفكار المسبقة والمسيطرة عن الذات وعليها، فالذات والأشخاض والأشياء في حد ذاتها، ليست في حالة تنافر كما تهيّئ لنا أفكارنا المسيطرة، ونظراتنا السطحية، بل هي تتجه نحو التكامل والانسجام. 

البوذية تقدّم حلولاً بسيطة لمشاعر الاغتراب والاكتئاب والقلق والخوف والكره، تقدّمها من خلال إعادة تعريف المشاعر المقابلة لها وإضاءتها، كالانتماء والسعادة والطمأنينة والسلام والمحبة والرضا، وتدعونا إلى إدراك الحقيقة في المكان الذي نحن فيه بدلاً من وهم السعي المحموم إلى مكان أفضل، وإلى الإحساس بأجسادنا بدلاً من كرهها ومحاولة البحث عن أجساد أجمل، وإلى تجويد عملنا بدلاً من البحث عن عمل أجدى، وإلى فهم الأشخاص الذين تربطنا بهم علاقات بدلاً من إقصائهم. 

نؤذي أنفسنا أكثر ونحن نمنّيها بالشفاء من مرض لا ندرك علّته، ونزداد حيرة ونحن نبحث عن دواء لا يداوينا، ونضلّ ونحن نسعى في طريق أخطأنا اختياره.

البوذية تقدم لنا أقصر الطرق إلى السعادة، وأكثرها تجرّداً من الأدوات والعدد والأسلحة التي نظن أنها ضرورية للمشي فيه، وأقلها تعلقاً بالأهداف الكبيرة، لأن البوذية لا تعدنا بالسعادة والراحة والطمأنينية، فكل ما تعدنا به هو التحرر من الحزن المرتبط بالماضي، ومن الأمل المتعلق بالمستقبل. 

البوذية فلسفة وجودية نباتية؛ النباتات تتفس بانسجام تام مع الكرة الأرضية، فهي رئة الأرض برغم أنها بلا رئة. وتتكاثر من غير اتصال، لكنها الأكثر اتصالاً بالريح والشمس والتراب والماء. وتموت ولكنها الأكثر تجدداً والأطول عمراً. وتعطي الكثير، لكنها الأقل أخذاً، والفائض عن حاجتها تعيد تدويره.

ما آخر عمل صدر لك، وما عملك القادم؟
آخر ما صدر لي مجموعة قصصية بعنوان "الجمل الإنجليزي" (2020)، عن "الدار الأهلية للنشر والتوزيع" في عمّان. والإصدار القادم مجموعة قصصية أنجزت منها ثماني قصص."الجمل الإنجليزي" هي مجموعتي القصصية الثالثة، فيها تسع قصص طويلة، وطولها استجابة لشهوة البناء المركّب من طابقين أو ثلاثة. وكنت في المجموعتين السابقتين ملتزماً التزام الزهّاد بمبدأ الاقتصاد في المساحة والمواد، فكانت قصصي تشبه بيتاً صغيراً يتسع لعيش شخص واحد، رجل أو امرأة. والآخرون ليسوا أكثر من ضيوف عابرين. في المجموعة الثالثة، فكّرت بدعوة شخصيات أخرى ليكونوا من أصحاب البيت، وتطلّب ذلك توسيع الحدث أفقياً، والحفر في الذاكرة عمودياً. والنتيجة أن البناء صار واسعاً وطابقياً. ذاكرة الأشخاص عندما يعيشون في بيت واحد تتدفق، وخلفياتهم تتضح. 

المقصود من هذا الكلام أن القصة فن مرن قابل للانحناء والتشكّل والذهاب بعيداً في المكان والزمان والشخصية الإنسانية مع الاحتفاظ بوحدته واتساقه ولسعته الكاوية المدهشة.

أكتب القصة القصيرة لأن نفَسي قصير، وخيالي أوسع من لغتي

هل أنت راضٍ عن إنتاجك ولماذا؟
الرضا في التعبير الأدبي لا يمكن بلوغه. الكاتب منتِجٌ متواضع لأنه مهما كان بارعاً في عمله يظل إنتاجه عاجزاً عن بلوغ اللامحدود في إمكانات المادة الخام التي يتعامل معها. 

نقرأ نثر الجاحظ ونتعجّب من قدرته على إنتاج عبارته، ولكن هل كان الجاحظ راضياً عن إنتاجه؟ لا أظن ذلك، والدليل أنه كان كثير الحديث عن العي والحصر، والنقص والخطأ في التعبير. وكان مهموماً بأساليب البيان وفنونه، فهماً وتطبيقاً. 

الرضا عن الإنتاج لا يقاس بعدد الكتب التي يصدرها الكاتب، ولا بعدد القراء والجوائز. بل أرى أن المقروئية الواسعة يجب أن تخيف الكاتب، وتدفعه إلى إعادة النظر في منتجه، وفي صدقية "مصنعيته". الرضا عن الإنتاج الأدبي مسألة تخص المستهلك وليس المنتِج. والكاتب ينتج لأسباب لا علاقة لها بالاستهلاك والرضا. الكاتب الذي "يستهلك" نفسه في الكتابة، هل يمكن أن يشعر بالرضا عن المردود مهما كان، مادياً أو غروراً أو متعة أو اكتشافاً؟ النقص الرهيب في "الموارد" المتحصل من كل عملية إنتاج أدبي لا يمكن قياسه أو تعويضه إلا ببلوغ حالة الانصهار الكامل في العملية ذاتها حتى يغدو المنتِج والمنتَج شيئاً واحداً.

لو قُيِّض لك البدء من جديد، أي مسار كنت ستختار؟
لا أزعم أنني اتخذت الكتابة الأدبية مساراً حياتياً، فالكتابة ليست مهنتي، ولم أسعَ إلى جعلها كذلك. لم أخلص لهذا المسار، أمشي فيه ثم لا ألبث أن أحيد عنه. 

الكتابة وجه من وجوه شخصيتي، يوجهني إلى مساره فأتبعه، وسرعان ما يطغى عليه وجه آخر فأمضي في مساره. مسار الكتابة أشد وعورة من أي مسار آخر، وتعبيده يحتاج لهاثاً متواصلاً وطاقة هائلة وساقين لا تعرفان الكلل. في مسار الكتابة أنا ناقة مأمورة، إن تُركت وشأنها ستتبع العشب أينما كان. قيامي ثقيل ومشيي بطيء. أكتب القصة القصيرة لأن نفسي قصير، وخيالي أوسع من لغتي. 

كتبت أقل من مئة قصة قصيرة في ربع قرن، ونشرت ثلاث مجموعات. هذا يجعل علاقتي بمسار الكتابة مثل علاقة العاشق بحبيبته الأولى، علاقة تسليم بأن المسارات افترقت، ولكنّ الحنين يشدّه إليها فيذهب في بعض الليالي المقمرة ليدور حول ديارها.

قصصي تُشبه بيتاً صغيراً يتسع لعيش شخص واحد

ما التغيير الذي تنتظره أو تريده في العالم؟
لطالما أردت عالماً بلا حدود وتأشيرات سفر، ولكن الحدود زاد عددها، والسفر أصبح محفوفاً بالموت أحياناً، وامتهان كرامة المسافرين أحياناً أخرى، وفي السنتين الأخيرتين بات السفر محظوراً حظراً تاماً. 

العالم يتجه نحو تضييق الحدود لتكون بين المدن وليس بين الدول، ثم لتكون بين الأحياء والضواحي داخل المدينة الواحدة، ثم لتكون بين البيوت داخل الحي الواحد، وأخيراً بين الحجرات داخل البيت الواحد. هذه ليست فانتازيا سينمائية، أو دستوبيا روائية، فقد اختبرها البشر جميعاً مؤخراً.

حرية التنقل صارت حقاً مخصوصاً وحصرياً لفئة قليلة من المتنفذين في مجالات السياسة والأمن والتجارة والإعلام، أما البشر العاديون فقد فرض عليهم أن يتنقّلوا في المجال الافتراضي وهم محبوسون في بيوتهم. والتنقل في المجال الافتراضي يعطي انطباعاً مضللاً بالحرية، لأن المسافر عبر المجال الافتراضي لا يرى الواقع على حقيقيته، ولا يعيش الحياة كما يجب أن تعاش، وإنما يراها ويعيشها كما يريد له السياسيون والمؤثرون وصناع المحتوى الافتراضي أن يراها ويعيشها.

المشكلة الجوهرية في هذا السؤال أن الأمنيات والرغبات هي دائماً أطول عمراً من عمر الإنسان، فكل ما يتمناه الإنسان اليوم سيعيشه إنسان آخر في المستقبل، وستكون أمنياتنا عبئاً ثقيلاً على كاهله، وسيتمنى من أعماق قلبه أن يعود إلى عالمنا ليصفعنا على وجوهنا. لذلك علينا أن نكفّ عن صناعة المستقبل لغيرنا، مستقبل مهنَدس بقصر نظر وغباء.

شخصية من الماضي تود لقاءها، ولماذا هي بالذات؟
أودّ لقاء فان غوخ صاحب مقولة: "لكي تنمو عليك أن تنغرس عميقاً في التراب". أود أن أسأله: لماذا تبدو زهور عبّاد الشمس في لوحاته خائفة ومهزومة ومنكفئة ومرتعدة وعمياء؟ وهل قتلتها طموحاتها وتطلعاتها، وهل رأت ما لا تحتمل رؤيته، وهل جذروها لم تكن عميقة بما يكفي لتنمو وتواجه شمس الحقيقة المحرقة؟

صديق يخطر على بالك أو كتاب تعود إليه دائماً؟
أعود إلى رواية "امرأة في الرمال" للياباني كوبو آبي. أرى أنها رواية العلاقة المطلقة بين المرأة والرجل. كل سياق أو شكل أو صيغة يمكن أن تتخذها العلاقة بين المرأة والرجل موجودة في هذه الرواية. 

السرّ في شمولية هذه الرواية أن أحداثها تدور داخل كثبان الرمال المتحركة، والعلاقة بينهما محكومة بكل ما تتميّز به الرمال من خصائص؛ التقلّب، والتبدل، واللزوجة، والتكرار، والعبثية، والأسر، والانزلاق، والرقة، والخفة، والنعومة. العلاقة المطلقة يذوب فيها الزمان والمكان والمشاعر والرغبات والصراع. ويتذرى الجسدان وتتلاشى الذاتان، وتأخذان شكل الرمال.

ماذا تقرأ الآن؟
آخر ما قرأته كتابان لخير الدين الزركلي، الأول "عامان في عمان"، والثاني "الوجيز في سيرة الملك عبد العزيز".

والزركلي أديب ومؤرّخ قومي عربي سوري المولد، وهو ينتمي من إلى الدفعة الأخيرة من الموسوعيين العرب، قبل أن يصبح المؤرخ مفصولاً عن اللغة وآدابها. والزركلي شاهد على عصر القومية العربية وولادة الدولة القطرية من رحم المخطط الاستعماري. وهو مستشار الملوك والعارف ببواطن الأحداث، والمطلع على تفاصيل الدور الذي لعبه الإنجليز والفرنسيون في تشكيل الجغرافيا السياسية للمشرق العربي. ويعتمد الزركلي على الوثائق والمصادر العربية والأجنبية، والمشاهدات الحية، والروايات الشفوية، في بناء سرديته التاريخية، بناء محكماً ومقنعاً، مستفيداً من قدرته على التصوير الدرامي، والتجسيد الواضح للملامح النفسية للشخصيات التاريخية. منطلقاته القومية لا تتدخل في موضوعيته، لكنها تمثل منظاراً عاماً، وخلفية فكرية، تحكم الأطار العام لسرديته. وانحيازه القومي العربي لا ينفي موضوعيته، وموضوعية المؤرخ لا تجرّده من أهوائه.

ماذا تسمع الآن، وهل تقترح علينا تجربة غنائية أو موسيقية يمكننا أن نشاركك سماعها؟
أنا من نوع المستمعين الذين يستمعون إلى أغان، وليس إلى مغنين. هذا التعاطي المزاجي مع الموسيقى والغناء يعطيني خيارات واسعة، وفرصة للتنويع والاطلاع على تجارب مختلفة، عربية وغربية. 

آخر ما أعجبني من أغنيات، أغنية المصرية دنيا مسعود "يا سمباتيك". تغنيها بمصاحبة آلتي الناي والرق فقط. صوتها المجروح فيه إيروتيكا غير مفضوحة ومجون غير مبتذل. 

الأصوات المجروحة تعجبني أكثر من الأصوات الصافية القوية، يعجبني صوت شادية ونجاة وعفاف راضي وأنغام محمد علي. أم كلثوم في صوتها جرح قديم ملتئم، ولكنه ينزّ أحياناً. وصوت فيروز ليس مجروحاً، ولكنه يجرح.


بطاقة
نبيل عبد الكريم من مواليد مدينة إربد (شمال الأردن) عام 1969، ويحمل درجة الماجستير في الأدب العربي الحديث عن أطروحته "الشخصية العصابية في القصة القصيرة الأردنية (1980 – 2002)". صدرت له ثلاث مجموعات قصصية؛ الأولى بعنوان "الصور الجميلة" (1996) عن "دار أزمنة"، والثانية بعنوان "مصعد مزدحم في بناية خالية" (2016)، والثالثة بعنوان "الجمل الإنجليزي" (2020)، وكلاهما عن "الأهلية للنشر والتوزيع".

وقفات
التحديثات الحية

المساهمون