وقفة مع بلال خبيز

وقفة مع بلال خبيز

15 نوفمبر 2021
(بلال خبيز)
+ الخط -

تقف هذه الزاوية مع مبدع عربي في أسئلة سريعة حول انشغالاته الإبداعية وجديد إنتاجه وبعض ما يودّ مشاطرته لقرّائه. "لو عاد بي الزمن إلى الوراء، لكتبت أيضاً، إنما ليس ما كتبته. كنت سأكتب، على الأرجح، شعرا زجليا ساخرا، من نفسي ومن غيري ومن الكرة الأرضية"، يقول الشاعر والكاتب والفنان اللبناني.


■ ما الذي يشغلك هذه الأيام؟

- أكثر ما يشغلني هذه الأيام هو انعدام دور المثقف أو ضموره إلى الحد الذي لم يعد يملك معه أي تأثير في الشأن العام. لا أتحدث في هذا السياق عن المألوف من الخطاب الذي لطالما ادعى أن الحكومات وأهل السلطة يعملون ما جهدوا على تجاهل دور المثقف في المجتمع. ما أتحدث عنه يتعلق بواقع أن السلطات الجديدة التي تتحكم بمسار حياة كل البشر في الكرة الأرضية، لا تتأثر بأي اعتراض أو ثورة أو احتجاج، ولا علاقة لها بما يعتمل في الاجتماع من غضب أو حيرة أو قنوط إلخ... فكل هذه الحالات قابلة لاستيعابها في ماكينتها الضخمة والاستفادة منها، بل، أصبحت تحث عليها وتتطلبها. وجود الفقر اليوم أو الجريمة مطلب من مطالب هذه السلطات وعملية نشرها وإعلانها تدر عليها أرباحا طائلة. أليس لافتا أن مايك تايسون كان نجما عالميا خلال رحلة صعوده وخلال رحلة تهاويه؟ 


■ ما هو آخر عمل صدر لك وما هو عملك القادم؟

- آخر أعمالي المنشورة هو كتاب نقد فني بعنوان "التقدم نحو الكارثة"، وقد صدر عن "دار النهضة العربية" ببيروت. هذا الكتاب ومع أن نشره جاء متأخرا أكثر من عقد على إنجازه، إلا أنه يبدو لي ما زال قابلا للانتشار وما زال قادرا على إثارة بعض النقاش. لكن ما أعمل عليه اليوم لم يعد متصلا بوشائج قوية مع هذا الكتاب وما سبقه. ذلك أن مياها كثيرة جرت في العالم خلال العقد الأخير، وأود أن أحسن السباحة فيها لئلا أغرق. اهتماماتي اليوم كما أسلفت بعيدة كثيرا عما كان يدور في خاطري في تلك الفترة. حيث كنت أؤمن أن دور الثقافة لا غنى عنه مهما تغيرت طبيعة الاجتماع والاقتصاد. 


■ هل أنت راض عن إنتاجك ولماذا؟

- لست راضيا البتة. هذا الشعور يلازمني منذ سنوات. ما الذي كتبناه؟ ولماذا كنا نكتبه؟ هل كانت تلك الكتابة تهدف فقط لإمتاع القارئ، وهو يكتشف ولادة الفكرة كلمة بعد كلمة؟ في الأصل لم أكن أريد أو أطمح أن أكون ساحرا أرضي المشاهدين وأمتعهم بإخراج الأرنب من القبعة. كنت أريد مما أكتبه المساهمة في تغيير أحوالي وأحوال من حولي. وفي محاولة اللحاق بالمستجد لئلا أصبح منتهي الصلاحية، ومجرد متقاعد على مقهى رصيف. اليوم الأسئلة التي تحضر في ذهني مريرة. على سبيل المثال، ماذا لو لم تولد قصيدة النثر، هل كنا سنتأثر كثيرا؟ لكن سؤالا من قبيل ماذا لو لم يصنع الهاتف الذكي؟ يستحضر إجابة مختلفة تماما. كما لو أن مثل هذه المنتجات تمحو ما قبلها تماما. في حين أن قصيدة النثر لم تنجح في محو ما سبقها. ذلك أن كل الفنون منذ فجر التاريخ تعيش معنا في هذه اللحظة. الخشية التي تتملكني الآن، تتلخص بالسؤال التالي: متى تصبح كل أعمالنا وجهودنا بلا أي قيمة على الإطلاق؟ وأرجح أن بقاءها معاصرة وحية لن يدوم طويلا. 

كل الفنون منذ فجر التاريخ تعيش معنا في هذه اللحظة

■ لو قيض لك البدء من جديد، أي مسار كنت ستختار؟

- بناء على وعيي الراهن، كنت سأختار مسار الاستمتاع في كل لحظة من لحظات حياتي. الاستمتاع من دون حمل المتعة على معنى أكبر منها. ويدخل في هذا السياق الاستمتاع بالفشل مثلما يدخل فيه الاستمتاع بالنجاح، بل وبصورة أكبر وأكثر كثافة. هل كنت سأكتب؟ أرجّح ذلك، إنما ليس ما كتبته. كنت سأكتب، على الأرجح، شعرا زجليا ساخرا، من نفسي ومن غيري ومن الكرة الأرضية والسماء على حد سواء. كنت سأكتب ما يجعلني أضحك. فقط لأنني راغب بالمتعة التي تثيرها النكتة. 


■ ما هو التغيير الذي تنتظره أو تريده في العالم؟

- أعتقد أن هذه المسألة خرجت من بين أيدينا كبشر. الماكينات المتحكمة بحياتنا ومستقبلنا لا تجيد التعامل مع العواطف. ونحن كائنات عاطفية. حتى الكلاب المنزلية حولناها إلى كائنات عاطفية، تحزن وتحب وتفرح. والأرجح أننا نجني عليها ونحملها ما لا تطيقه. العيش في هذا المعاصرة، إذا شئت تعريفه بجملة، هو العيش في نكران المتع. نعمل طيلة ساعات النهار كعبيد، والعاطلون عن العمل يحسدون هؤلاء العبيد على نعمة استعبادهم. ننجب أطفالا، ونكلفهم عقودا من حيواتهم وهم يسعون للتأقلم مع العالم حين يخرجون إليه بمفردهم. كل هذا الوقت لا نفعل سوى تعذيبهم (تعليمهم) لكي ينجحوا في تحمل العذاب الذي تعدهم به الحياة. هل أجرؤ على منع ابني من متابعة دراسته الجامعية؟ قطعا لا. رغم أنني أراه ينفق جل وقته في دراسة ما لن يحتاجه مستقبلا.


■ شخصية من الماضي تود لقاءها، ولماذا هي بالذات؟ 

- مارلين مونرو. تلك المرأة التي خضعت لكل نزوات المحيطين بها. وكانت تعرف أن خضوعها هذا هو ما يبقيها قيد التداول. هذه المرأة التي كانت تدعو الآخرين لاستغلالها بابتسامة الغافلة البريئة. كما لو أنها مع كل تجربة كانت تأمل في أن تجد الآخر الذي يشبهها بريئا وغير مستغل. لكنها كانت جميلة ومثيرة إلى حد أجبر كل المحيطين بها على التطلع لاستغلالها. آفا غاردنر مثلا كانت تملك جمالا يمكن وصفه بأنه صانع سلطة. مارلين كانت على العكس، جميلة إلى الحد الذي يحسب أي كان مع جمالها أنه قادر على تلطيخه. 


■ صديق يخطر على بالك أو كتاب تعود إليه دائماً؟

- لا أعود إلى ما قرأته. كل كتاب أقرأه يشبه يوما مضى ولن يعود. الأصدقاء من جهة ثانية دائما يخطرون. كلمة يخطرون ليست دقيقة في هذا المقام. دائما أشعر أن الأصدقاء يخونونني مع مشاغلهم وهمومهم. الصداقة بخلاف الحب، تحتمل الشجن كثيرا. غالبا ما تسر لصديقك بهمومك، وهذا بخلاف ما تسر به لحبيبتك. وجود الحب يفترض تحقق الفرحة. ومع الحبيب أنت دائما تدعي السرور. لا شك أن وجوده يبعث على السرور، لكن السرور بطبيعته مؤقت وسريع الزوال. ودائما ما يعقبه عودة إلى شجنك المقيم. الأصدقاء هم زينة الحياة الدنيا.


■ ماذا تقرأ الآن؟

- أقرأ كتابا بعنوان "لون القانون" لريتشارد روثشتاين. الكتاب يتحدث عن كيف عزلت الحكومات المتعاقبة في أميركا فئات متعددة من الشعوب والأعراق، وميزت ضدها. ويعالج النصوص القانونية التي وضعت لخدمة مصلحة عرق معين وأصول محددة. نعرف جميعا أن القانون يوضع لمصلحة الفئات التي لا غنى عنها في أي مجتمع. لكن هذا الكتاب يوضح كيف أن القانون في نصوصه، التي تبدو للوهلة الأولى، متسامحة ومساوية بين الأفراد، يعمل لمصلحة فئات دون أخرى. هذا الكتاب جعلني مرة أخرى أعيد التفكير في كل الحديث الممجوج عن ديمقراطية الإنترنت والعولمة، وعن الحظوظ المتكافئة لكل الأفراد الذين يعيشون تحت فلكها. 


■ ماذا تسمع الآن وهل تقترح علينا تجربة غنائية أو موسيقية يمكننا أن نشاركك سماعها؟

- لا أملّ من الاستماع إلى حسن الحفار. الذي غادر هذه الحياة مؤخرا. استمع إليه وأقارن بين أدائه للأغنية وأداء أم كلثوم أو محمد عبد الوهاب أو صباح فخري أو صبري مدلل للأغنية نفسها. كما لو أن الحفار يتحول في ذاكرتي إلى ميزان تزان عليه المقامات الموسيقية وطرق الأداء. بعض أصدقائي الموسيقيين، والذين أعتز بآرائهم، لا يجدون فيه هذه الميزة. لكنني على نحو ما أشعر أنه يفكك الطرب إلى أجزاء صغيرة يمكنك ملاحظتها من المرة الأولى. لكن إدمان سماع الحفار تسبب في مشكلة لم أكن أريد أن اختبرها. ذلك أنني بت أقل تسامحاً مع مطربين ومطربات كبار، خصوصا حين ينساقون وراء اللحن ويلتزمون بحدوده الضيقة. لا أنصح أحدا بسماع الحفار. إنه بمعنى ما محبط ومجهد. والأفضل أن يكتفي المرء بنانسي عجرم ويدمن على سماعها. 


بطاقة

شاعر وكاتب وفنان لبناني من مواليد عام 1963، عمل في الصحافة المكتوبة والمرئية، منذ 1987، وشغل منصب أمين تحرير "ملحق النهار" بين عامي 1993 و2008 . كتب في دوريات عربية وأجنبية، وحاضر في جامعات ودور عرض أوروبية وأميركية وأسترالية ولبنانية. صدر له في الشّعر: "ربّما ذكرى هواء "، و"عن مرض والدي والحَرّ الذي لا يُطاق". وفي النقد الأدبي والفني: "في أن الجسد خطيئة وخلاص"، وأعمال أخرى، من بينها: "عنقي أرفع من شعرة" (بالاشتراك مع وليد رعد وطوني شكر)، "المعرفة لا تسبق الجهد" (عمل تجهيزي مصوّر بالعربية والإنكليزية). "الصورة الباقية والعالم الزائل" (بحث سياسي - فني - اجتماعي). وعمله الأخير، "التقدّم نحو الكارثة"، هو عبارة غن كتاب في النقد الفني السياسي، وقد صدر حديثاً عن "دار النهضة العربية" في بيروت.

وقفات
التحديثات الحية

المساهمون