وداعاً جاك هيرشمان: صوت الحرية في الشعر الأميركي

وداعاً جاك هيرشمان: صوت الحرية في الشعر الأميركي

25 اغسطس 2021
جاك هيرشمان في مقهى "تريستِه" في سان فرانسيسكو (2016)
+ الخط -

فقد الشعر العالمي أحد الأصوات الأكثر دعوة للحرية ومقاومة هيمنة الرأسمالية، الشاعر الأميركي جاك هيرشمان (نيويورك 1933 - سان فرانسيسكو 2021)، حدث ذلك أثناء اجتماع هيئة التنسيق لـ"الحركة الشعرية العالمية" الأحد الماضي، فقبل الاجتماع بخمس دقائق، التحق بغرفة الدردشة الافتراضية للحركة كل من الشاعر الصيني جيدي ماجيا والبرتغالي لويس فيليبي سامينتو والشاعرة الهندية راتي ساكسينا والأميركي جاك هيرشمان في انتظار التحاق باقي أعضاء الهيئة ومن بينهم كاتب هذه السطور.

لكن مع بداية موعد الاجتماع انسحب جاك هيرشمان الذي يتولى مهمة المنسق العام للحركة، لتخبرنا رفيقته أنيتا فالك بخبر وفاته أمام دهشة الجميع. طبعا لم يصدّق أغلبنا أن الخبر حقيقي، فرغم سنه المتقدمة لم نكن ننتظر منه أن يرحل عن عالمنا بشكل مفاجئ وفي لحظة حاسمة من مسار الحركة الشعرية العالمية، بل وخلال بداية انعقاد اجتماع حاسم من اجتماعات هيئة تنسيقها. لكن الخبر الذي بدا مثل مزحة ثقيلة سيتم تأكيده بعد ذلك بقليل. لقد كانت صدمة قوية تلقاها أصدقاؤه ورفاقه ومحبّو شعره سواء داخل الحركة الشعرية العالمية أو خارجها، كان موته خسارة فادحة للشعر وللمواقف النبيلة لشاعر ومناضل أميركي متمرد.

عاش هيرشمان العديد من الأحداث السياسية والأدبية خلال عمره الذي امتد إلى 87 سنة، افتتحها شعريا بديوانه الشعري الأول: "مراسلات الأميركيين" 1960 (سبقه كتيب شعري عام 1953)، عرف جاك حياة التسكع يقرأ أشعاره في شوارع ومقاهي سان فرانسيسكو، وربط علاقات مع "جيل البيت" وخاصة مع الشاعر لورينس فيرلينغيتي، لكن شعره كان يتفرد بخصائص مميزة جعلت منه شاعرا أصيلا لا يشبه إلا ذاته.

كانت مواقفه السياسية طليعية أيضا، فقد كان من المثقفين الأميركيين الذين وقفوا ضد الحرب الفيتنامية، كما كانت مواقفه المساندة للثورة في كوبا والداعمة للاختيارات السياسية الشعبية في كل من فنزويلا وبوليفيا جد مميزة، وصولاً إلى مواقفه ضد غزو العراق وتضامنه المستمر مع الشعب الفلسطيني.

أحد أكثر الأصوات دعوة لمقاومة هيمنة الرأسمالية

توالت أعماله الشعرية منذ 1960 وحتى سنة 2008، فقد صدرت له العديد من الأعمال مثل: "إثنان" 1963، "تبادل" 1964، "مشهد لندن مباشرة" (1967)، "شرارة" 1970، و"الخط السفلي" (1988)... وكمترجم نقل إلى اللغة الإنكليزية كتاباً ونصوصاً لمئات الشعراء والكتاب ومن لغات مختلفة، مثل بابلو نيرودا، أنطونين أرتو، فلاديمير ماياكوفسكي، جان كوكتو، روكي دالتون، روني ديبيستر، من بين العديد من الأسماء الأخرى، فمنذ أن غادر هيرشمان عمله كأستاذ جامعي في الستينيات، اختار أن يمنح وقته كاملا وبشكل حر للشعر والأدب والسياسة، مقتسماً حياة الالتزام مع رفيقة حياته ودربه الشاعرة والناشطة السويدية أنيتا فالك التي نقلت خبر وفاته لرفاقه في هيئة التنسيق للحركة الشعرية العالمية التي تنتمي هي الأخرى إلى عضويتها.

منذ سنة 1988 سهر جاك هيرشمان على إدارة مهرجان سان فرانسيسكو العالمي للشعر رفقة جماعة من الشعراء الرفاق الذين كان يسميهم "كتائب الشعراء الثوريين" (أصدر سلسلة من الأنطولوجيات تحت هذا العنوان). رحل جاك هيرشمان لكن مواقفه السياسية الشجاعة والناصعة ستظل راسخة في ذاكرة جميع الذين كانوا قريبين من عالمه وشخصيته وشعره، الذي علينا أن نكتشفه الآن من جديد وأن نقترب من وهجه الآسر. هنا ثلاث من قصائده نترجمها تلويحة وداع لصاحبها. 


لمهرجان لاتينيٍّ

زهرةٌ وغناءٌ

أتذكر التدحرج
ليس لزوج من النرد، ولكن
لذلك القطار القادم من المكسيك
وهو يعبر الحدود خلسة.

أتذكر سقفه، أواه
يا حزوز اللهاث الأخير،
صرخات الأظافر،
دموع الدم،

وطوفان الميتات الذي
أتى، بلا قطرة ماء. ثمانية عشر فردا
اختنقوا في ذلك اليوم. كم عدد الذين هناك
لم يتم أبدا الإبلاغ عن أخبارهم؟

أقرأ اليوم هذه السطور في زهرة
وغناء، في الواقع نقرأ جميعنا
ونغني الكلمة الحيّة
للأمل اللاتيني و

تشيكانا، ملفوفة في رغائف من غضب،
وحولنا أصوات الأبواب
المحطمة من قبل الغارات الوحشية
الليلية، للأصابع الحديدية

المسمرة على أكتاف قاطفي
الأعناب التي تم تثنينها،
في جذوات قصائد مقاومة
وتغيير حقيقي، تغيير

ثوري يصعد من
القواعد حيث ترسّخت جذور الشجرة
من النجوم التي تتفتح أغصانها في السماء
والتي أخيرا ستكون ملكًا لنا جميعًا.


◼️◼️◼️


كاكري في كاراكاس

في المزارع المركزية في غوايكابورو، في
في مقاطعة ساريا 
هُزم ظل الأبراج
العليا لكاراكاس،

كاكري جاز!

جاز الكلاب الضالة، حسنًا، هذا ما يعنيه كاكري:
الكلاب الضالة التي تمضي لتستقصي، من قمامة إلى قمامة.
هكذا يسمون أنفسهم: بابلو،
وخوسيه، وإيرفين، وماكس، ولينين، أرماندوس الإثنان، داريو وخيسوس-
هذه المجموعة من قطاع الطرق في غرفة في حجم بالكاد
يكفيهم مع قعقعة
أدواتهم التي تزهر بمصير واضح،
نشوة أفواه وأيادي الطبل،
ورفيف القياثر والباس يوقع عليها الرعد أنغامه..

الزقاق الضيق هناك يضع أسماعه على الباب.
تأرجح هؤلاء الفتية لأجل جلاجي أليسون ولأجلي أنا،
من الولايات المتحدة؛ هم واقفون ونحن نتكوَّرُ
على الأرض؛ نشعر جميعًا بأننا في بيتنا في عالم بلا مأوى
يحوم حول تلك النقطة حيث
يبدأ كل اتصال وتناغم، صوتُ
كل دوامة.

يبدأون ويقرعونه! نقرعه وأنت أيضًا يا هوغو!
وسط هطول وابلٍ من أمطار كاكري
في مثل هذه الفضاء الصغير جدا، موسيقى جد متباعدة!
مع القليل جدا من الطعام والكثير من النضج
طبيخ غير تقليدي على الطبول،
الكثير من النكهة في الساكسفون.
الشعب موحد في الصوت
عبر إيقاعات الأمل،
شعر حر من فيثاغوراس
حتى كولترين، مرورا ببوليفار،
أبدا لن يُهزَم!
كاكري، كاكري، كاكري، كاكري!
يا له من مزيج، يا لشطارة في تلك العبارات المنمقة والبارعة، يا لها من وليمة
لتغذية حشا قلب الفقر العذب!


◼️◼️◼️


ولا مرة أبداً بعد الآن!

تم قتلهم بالغاز، أُحْرِقوا
بالملايين، فقط ألكونهم في الوجود.
الذين نجوا قالوا: ولا مرة أبداً بعد الآن!
طلبوا منهم أن يأتوا إلى هانوي
من أجل أن يواصلوا الثورة الاشتراكية.
فأجابوا: ولا مرة أخرى أبداً بعد الآن!
ولا مرة أبداً بعد الآن سوف نثق بأي حكومة.
سوف نبني بيتنا في فلسطين،
سوف نهزم العرب الذين هناك وسنشتتهم
أو سوف نسمح لهم بأن يعيشوا مثل ظلال رثة بالية
في حقول مجالات احتلالنا.
سوف نعيش من وفي عاصمة الولايات المتحدة
كأمة يهودية، باسم إسرائيل،
ولن نستسلم أبدا لهولوكست
بسبب جريمة الوجود لذاته.
لكن بينما كانت إسرائيل تنمو وتزدهر،
أولئك الذين شردتهم واعتقلتهم
كانوا يهمسون: ولا مرة أبداًً بعد الآن!
فقراء وبلا أرضٍ، شيدوا مقاومتهم
وقاتلوا وخسروا مرات ومرات
أمام الجيش الصهيوني بالأسلحة الأميركية.
لغة الاشتراكية ولغة الصداقة
والتناغم بين شعوب ثقافات مختلفة
مات من الاستنزاف في الشرق الأوسط، من أجل
المال، والعقود، والحفلات الباذخة للمراحيض. البغال الكئيبة.
الواشون السخفاء. التعويضات عن الموت. نجمة
داود المشرعة على الأرض.
لكن وجوه داود الحقيقية كانت في الشوارع
ترمي الحجارة على جالوت.
آه يا للسخرية الفلسطينية، المتعارضة مع تلك للعبريين.
الأشد فقرا، أولئك الذين ليست لديهم دولة،
الذين حولوا كراهيتهم إلى قبول خاضع
للعبودية في كتائب شهداء الأسلحة
البشرية الانتحارية والذين نادوا إخوتهم
للتوحد معهم في هجومهم ضد المستعمرة الشرسة
للولايات المتحدة في الاستغلال.
هم، الأشد فقرا، بلا مأوى، الذين فيهم
بعد لا يزال يتنفس الحل الأوحد، الوحيد الأوحد
حل غير إبادة جماعية ولا قتل للأشقاء،
لا "الحل النهائي"، حيث ضغوط
الأيدي والكلمات لا يزال بإمكانها أن تفتح الأبواب
للغة اشتراكية المستقبل لإسرائيل جديدة
وفلسطين جديدة،
- ولا مرة أبداً بعد الآن!
ستكون صرخة موحدة
لكليهما موجهة إلى
أرض الاحتيال و
إلى مأوى الجشع.


* شاعر ومترجم من المغرب

 

آداب وفنون
التحديثات الحية

المساهمون