هاني حوراني.. فوتوغرافيا نضالات العمال الأردنيين

18 فبراير 2025
يقدّم المؤلّف مراجعة موضوعية لإنجازات الحركة العمالية الأردنية التي تحققت بعد طول نضال
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- يُبرز الكتاب دور الصور التاريخية في توثيق نضالات العمال في الأردن، مستعرضاً مصادر متنوعة مثل الأرشيف العثماني ومكتبة الكونغرس، ويضيف بُعداً بصرياً لتاريخ الحركة العمالية من خلال معرض في "المتحف الوطني الأردني للفنون الجميلة".

- يتناول التحولات الاقتصادية والاجتماعية منذ العهد العثماني وحتى الانتداب البريطاني، مسلطاً الضوء على التنظيم العمّالي المبكر وتأثير التحولات السياسية والقانونية، مثل قانون نقابات العمّال عام 1953.

- يستعرض تطور الحركة العمالية في سياق النضال الوطني، مشيراً إلى التحديات مثل التدخلات الحكومية، ويختتم بمراجعة لإنجازات الحركة وإخفاقاتها، مع التركيز على شخصيات بارزة.

يُراكم الباحث والرسّام والفوتوغرافي الأردني هاني حوراني (1945) خبرةً قاربت الأربعة عقود في الدرس والتوثيق لنضالات العُمّال في الأردن، ضمّنها في عدد من المؤلّفات التي يضيف كلّ واحدٍ منها مقاربة مختلفة لموضوع تتشّعب ارتباطاته بالسياسة وإدارة الحُكم والتشريع، وكذلك بحركة المجتمع وتحوّلاته المستمرّة، وبترسيخ سلوك مديني يعكس علاقات نقابية تُنظّم حقوق الناس وتُدافع عن مصالحهم.

في كتابه "الحركة العمّالية الأردنية: تاريخ مصوّر"، ينشغل حوراني بالصورة باعتبارها شاهداً على وقائع تاريخية، وربما تضيف أحياناً بُعداً مركباً للحدث في نقلها تعبيرات الناس وجانباً من مشاعرهم، أو في وقوفها على أنشطة اجتماعية وتوعوية وتدريبية وترفيهية لم تحظ بتفصيل في المدوّنة المكتوبة كما تخلق أيضاً إطاراً جديداً لاستيعابها والإحاطة بها. علماً بأن إشهار الكتاب تَرافق مع إقامة معرض استضافه "المتحف الوطني الأردني للفنون الجميلة" في عمّان في تشرين الثاني/ نوفمبر الماضي، وضمّ مختارات من صور الكتاب، التي تعدّدت مصادرها: الأرشيف العثماني، ومكتبة الكونغرس الأميركي، والمكتبة الوطنية الأردنية، ومركز الأردن الجديد للدراسات، وأرشيفات عدد من النقابيين والمصورين الصحافيين في الأردن.


الفلّاحون حين تحوّلوا عمّالاً

تعود الصور التي تضمّنها الفصل الأول إلى لحظة تشييد سكّة حديد الحجاز، المشروع الضخم الذي دُشّن العمل به عام 1900 وانتهى بالكامل سنة 1908 حيث انطلقت الرحلة الأولى من دمشق إلى المدينة المنوّرة مروراً بعمّان، إذ تبرز بعض هذه الصور كيف استعانت السلطات العثمانية بسكّان المنطقة التي تمرّ منها السكّة في شقّ الطريق ونقل الموادّ إلى أماكن العمل.

حوّلت سياسات الانتداب البريطاني الفلّاحين الصغار إلى عمّال

تُظهر مجموعة الصور المأخوذة من الأرشيف العثماني العمّال وهم يمدّون القضبان، وللقطار يعبر فوق "الجسور السبعة" بالقرب من العاصمة الأردنية عام 1903، ولمحطّة مدينة معان، وهي لا تُقدّم الكثير عن مرحلة عاشت التنظيمات العمالية حراكاً واحتجاجات في إسطنبول وحواضر كبرى في بلاد الشام، كما تشير دراسات عِلمية تأخّرت إلى النصف الثاني من القرن العشرين.

في الفصل نفسه، نبّه حوراني إلى أن إنشاء سكّة الحديد رافق ظهور العمل المأجور في أشكاله الأولى، في الأردن، مبيّناً أنه تمّ إسناد بعض الأعمال اليدوية إلى العمالة المحلّية، فقام أفراد من قبيلة بني صخر مثلاً بنقل ستّة آلاف عمود للسلك البرقي من محطة المزيريب إلى معان، مع جميع مستلزماتها من صناديق وأسلاك، بينما تكفّلت قبيلة بني عطية بتوصيل الأعمدة من معان إلى مدائن صالح، مستخدمة أكثر من مئتي بعير في نقلها، وزادت فرص العمل المؤقّتة في تلك الفترة.

لا يغفل المؤلف أسباب نشوء العمل المأجور في شرقيّ الأردن، الذي شهد تحوّلات اقتصادية واجتماعية عميقة كان من نتائجها تركّز الأراضي في أيدي كبار الملّاكين والتجار والمرابين، خلال النصف الأول من القرن التاسع عشر والعقد الأول من القرن العشرين، ونتيجة لذلك فقَد العديد من الفلاحين ملكيتهم للأراضي؛ بسبب عدم قدرتهم على سداد الديون، مما أسهم في ظهور العمالة المحلية المأجورة.

هاني حوراني في المعرض الذي تزامن مع إشهار الكتاب
هاني حوراني في المعرض الذي تزامن مع إشهار الكتاب

تابع حوراني في الفصل الثاني تشخيص الواقع الاجتماعي في حديثه عن سياسات الانتداب البريطاني بعد انهيار الحُكم العثماني في بلاد الشام، والتي شجّعت على تفكيك المُلكيات المشاعية، وتشجيع الملكيات الفردية، ما أدى إلى انتقال المزيد من الأراضي إلى كبار الملاكين، وتحوّل الفلاحين الصغار إلى عمّال أو محاصصين، ولكنه نبّه إلى أنه حتى عقد الأربعينيات لم تكن هناك قوانين فعّالة لحماية العُمّال، وظلّت الأحكام العثمانية هي المراجع القانونية المعتمدة، وساهمت قوانين منع الجرائم والاجتماعات العامة والجمعيات منذ نهاية العشرينيات وصولاً إلى إعلان حالة الطوارئ عام 1939 في خلق مناخ سياسي مقيّد للحرّيات العامة لم يسمح بظهور تنظيمات عمّالية أو احتجاجات مطلبية.


محاولات مبكرة

واستعرض المحاولات المبكرة للتنظيم العمّالي في شرقيّ الأردن التي تعود أولاها إلى النصف الثاني من العشرينيات، مستشهداً بتقارير الشرطة البريطانية في فلسطين خلال تلك الفترة التي ذكرت نجاح إنشاء خلايا "شيوعية" تضمّ عمالاً ومواطنين من شرقي الأردن بتنظيم من عمّال فلسطينيين يعملون هناك، كما تقدّمت مجموعة من الأردنيين بطلب تسجيل "حزب العمال الأردني"، وفقاً لصحيفة "الجامعة العربية" المقدسية في 16 أيلول/ سبتمبر عام 1931.

إلى جوار الصورة الفوتوغرافية وأهميتها، يُحسب للكتاب تقديمه تاريخ الحركة العمالية في سياق متكامل عبر ربطها بالتحولات الاجتماعية والاقتصادية وتأثيرها على الواقع السياسي والقانوني والثقافة السائدة، بالاعتماد على مصادر أردنية وأجنبية، توضّح الصلات الوثيقة بين محاولات إنشاء تنظيمات عمالية وبين الحركة الشيوعية، والإحاطة بتفاصيل عديدة تمكّن القارئ من استيعاب نضالات شيّدت خطوة خطوة، حيث حاولت بعض الشخصيات تأسيس تنظيمات نقابية في تلك الفترة، ومنها محاولة تأسيس جمعية لسائقي السيارات بعد إضرابهم عن العمل سنة 1936.

من تظاهرة في عمّان بمناسبة عيد العمال عام 1970 (من مجموعة مركز الأردن الجديد للدراسات)
من تظاهرة في عمّان بمناسبة عيد العمال؛ الأول من أيار 1970

ويلاحظ القارئ أيضاً الارتباط العضوي بين الأردن وفلسطين في نضالات العمّال، ما يذكّر بنشوء الأحزاب الشيوعية والبعثية والإسلامية في تنظيم واحد على كلتا الجغرافيتين قبل أن يستقلّا أردنياً وفلسطينياً بعد عقود، وكذلك على مستوى التنظيم النقابي الذي تشابك في أحيان كثيرة، مثلما يورد الكتاب كيف بدأ موظّفو سكّة حديد عمّان عام 1946 بتنظيم أنفسهم كنقابة فرعية تابعةٍ لنقابة سكّة حديد فلسطين وكان مقرّها حيفا، إلّا أن الفرع الأردني لهذه النقابة لم يستمرّ لأكثر من ستّة أشهر قبل أن يحلّ.

انتهجت السلطات الأردنية سياسة مناهضة لقيام تنظيمات نقابية كما يُبرز الكتاب، إلّا أن تصاعد حراكات العمّال في الأربعينيات، ودعوات صحف المعارضة لاحترام حقوقهم وتوفير حياة كريمة لهم وسَنّ تشريعات تحميهم من استغلال أصحاب العمل، شكّل ما يسمّيه المؤلّف بـ"ثورة بيضاء" في واقع العمالة الأردنية، يسلّط الضوء عليها في الفصل الثالث الذي يتناول التغيُّرات التي أحدثتها النكبة على سوق العمل في الأردن وفلسطين، حيث تضرّرت القوى العاملة في كلتا الضفتين حيث فقد أكثر من عشرين ألف فلسطيني وظائفهم في إدارة الانتداب البريطاني، وفقَد آلاف العمّال من شرقيّ الأردن أشغالهم في فلسطين بالإضافة إلى خسائر الاقتصاد الأردني، وتأثّرت الحركة العمّالية في الضفة الغربية مع إعلان قانون الدفاع وفرض الأحكام الاستثنائية حيث حلّت معظم منظّماتها.


في معركة التحرر الوطني

لفت المؤلّف في الفصل الرابع إلى تطور إيجابي تمثّل بصدور قانون نقابات العمّال رقم 35 لسنة 1953، الذي أباح حق التنظيم النقابي لكلّ سبعة عمّال أو أكثر يعملون في مهنة أو مؤسسة واحدة وأقرّ بحقّ الإضراب، في مرحلة شهد بها الأردن انفتاحاً سياسياً بشكل نسبي ترافق مع إنشاء نقابات العمّال التي وصلت إلى عشر بحلول العام التالي، كما استطاعت هذه النقابات أن تتوحّد تحت مظلّة الاتحاد العام لنقابات العمّال بموازاة تطوير عدد من التشريعات، من دون تجاهل تضييق السلطات عليها في بعض الأحيان.

المؤتمر الثاني لاتحاد عمال الأردن، 13-20 آب/ أغسطس 1965
المؤتمر الثاني لاتحاد عمال الأردن، 13-20 آب/ أغسطس 1965

لخّص الكتاب ذلك المناخ بالقول إن قضية حقوق العمل والتنظيم العمالي اكتسبت أبعاداً كبيرة، بفضل تحوّلها إلى جزء عضوي من حركة النضال من أجل التحرر الوطني وحقوق الإنسان، حتى تمّت إقالة أول حكومة برلمانية أردنية ترأّسها سليمان النابلسي عام 1957، والذي عارضته الحركة العمّالية، ما تسبب بملاحقة قياداتها واعتقالهم وقيّدت حركة النقابات وتزايدت التدخلات الحكومية حتى الستينيات، لكن نضال النقابات نجح في إبرام اتفاقية جماعية في ذلك العقد تضمّنت تحديد ساعات العمل والحد الأدنى للأجور والإجازات.

في أسلوب شائق وسلس، أكمل حوراني سرد الحكاية بالصورة والنَّص، حيث استمر انتعاش الحركة بعد هزيمة حزيران/ يونيو 1967، مع انطلاق عشرات التحركات المطلبية في قطاعات عديدة أدّت إلى توقيع اتفاقيات جديدة اشتملت علاوة غلاء المعيشة والزيادة السنوية للأجور والتأمين الصحي والإجازات المرضية والسنوية مدفوعة الأجر، مع ارتفاع مطرد في عدد النقابات المسجلة في الاتحاد العام للنقابات العمالية.


مدّ وجزر

لم تتحقّق هذه المطالب وغيرها إلا بعد حراك مكثّف استدعى إقامة اعتصامات وإضرابات ومفاوضات عسيرة، ولم تتغير سياسات السلطة تجاه هذه الحراكات العمّالية عبر الاستجابة لمطالبها تارة، ثم ممارسة التقييد والضغوط تارة أُخرى، لكن الكتاب يتوقّف عند مرحلة مهمّة بقيت تداعياتها مستمرّة لعقود حين اتّخذت السلطات مجوعة من الإجراءات بعد أحداث أيلول/ سبتمبر 1970، من أجل تغيير بنية الحركة العمّالية بشكل جذري، بما في ذلك تعيين قيادات موالية في النقابات العمالية ودمجها بهدف تقليص نفوذها وتراجع أرباب العمل عن الاتفاقيات الجماعية مع العمّال، وعزل هذه النقابات عربياً ودولياً.

لم تتحقق مطالب الحركة العمّالية الأردنية إلا بعد حراك مكثّف

بقيت العلاقة بين الحركة العمالية وبين السلطة وكذلك أرباب العمل محكومة بمدٍّ وجَزر، حيث شهدت الحركة تراجعاً في استقلاليتها حتى عام 1989؛ مع الانفراج الديمقراطي وإنهاء الأحكام العُرفية التي حكمت البلاد نحو خمسة وثلاثين عاماً، ورغم عدم مشاركة الاتحاد العام لنقابات العمّال في الهبّة الشعبية التي قادت إلى ذلك التغيير، ولم يتحرّك لتحسين أوضاع العمّال أيضاً، بحسب الكتاب، إلا أن النضال العمّالي استمرّ بشكل أو بآخر خلال التسعينيات لتطوير قانونَي العمل والضمان الاجتماعي.

مع دخول الألفية الثالثة، تصاعدت التحركات المطلبية العمّالية التي أخذت زخماً أكبر بين عامَي 2008 و2013 في ظلّ التراجع الاقتصادي وتدهور الحياة المعيشية لدى فئات عديدة، لكن الحدث الأبرز خلال هذه المرحلة تمثّل في قيام النقابات العمّالية المستقلّة، التي ظهرت أولى المطالبات بها سنة 2001 خلال الإضراب الكامل لعمّال شركة الفوسفات لكنها سترى النور بعد عشر سنوات، لتعترف بها الحكومة عام 2013.


المشهد الأخير

يرسم الفصل الأخير ملامح السنوات العشر الأخيرة التي استمرّت خلالها أوضاع الطبقة العاملة والأجور في التدهور، وبلغ هذا التدهور ذروته أثناء تفشي وباء كورونا (2020 - 2021)، مع تراجع قدرة الاقتصاد الأردني على خلق فرص عمل جديدة وارتفاع نسبة البطالة، كما لا يزال نحو 59% من القوى العاملة غير مشمول بالضمان الاجتماعي، لكن قدراتها في الدفاع عن حقوقها الاقتصادية والمعيشية تراجعت بشكل ملحوظ كذلك.

كتاب يضيف لإصدارات سابقة ألّفها حوراني حول الحركة العمّالية الأردنية منذ الثمانينيات، بحيث تمتدّ قراءته لتاريخها منذ نهاية الحكم العثماني وحتى اليوم، ويقدّم مراجعة موضوعية لأبرز إنجازاتها التي تحققت بعد طول نضال، وإخفاقاتها التي تسببت في إضعاف دورها، ويضع خلاصة تأريخه مع مجموعة كبيرة من الصور والوثائق التي تمنح الأحداث المروية عمقاً أكثر وحضوراً أكبر للعامل؛ الإنسان الفاعل في مجتمعه، خاصة في استذكاره لشخصيات عديدة لا تزال حاضرة في الذاكرة العمالية، مثل: حسني صالح الخفش وزيدان يونس وزكي الشيخ ياسين ووجيه محمد منكو ومحمد جوهر وموسى يوسف قويدر وسعاد محمد باكير وباسمة محمد العوراني وبشرى السلمان وغيرهم. كما لم يفت المؤلف تقدير ما بذله آخرون في كتابة تاريخ العمال، وفي مقدمتهم محمد سليمان القيمري الذي انخرط في العمل النقابي منذ عام 1957 وألّف خمسة كتب حول الحركة العمالية في الأردن وفلسطين.